كانت أصواتُهم عاليةً، في اعتصامات الدوار الرابع في جبل عمّان، وأمام مبنى النقابات المهنية في الشميساني، ضد حكومات الإفساد والتجويع والإفقار والارتهان لصندوق النقد الدولي، وضد الفساد وحُماته. ومنهم من هتف من أجل ولايةٍ حقيقيةٍ لرئيس الحكومة، في نظام ديمقراطي مكتمل، ولم تكفِهم إقالة حكومة هاني الملقي، ولا العدول عن رفع أسعار المحروقات، فالأزمة السياسية والاجتماعية والمعيشية في البلاد أعمق من علاجاتٍ موضعيةٍ مثل هذه…
الإشارة هنا إلى أردنيين عديدين، كانوا في صدارة احتجاجات “هبّة رمضان”، يمحضون نظام بشار الأسد إعجابا غزيرا، لصموده في مواجهة المؤامرات التي استهدفت سورية الوطن وسورية الدولة. منذ الأسبوع الأول للربيع السوري المغدور، إبّان هبّة أهالي درعا قبل أزيد من سبع سنوات، وحتى آخر مساءات اعتصامات الأردنيين الأسبوع الماضي، لم ينطق هؤلاء بمفردة تعاطفٍ واحدةٍ مع أيٍّ من ضحايا النظام القاتل في دمشق. ارتعشوا من صيحات أطفال درعا، خافوا من أن تهزّ مظاهراتٌ تتابعت، ثم تتالت في حمص وحماه وأطراف دمشق وأريافٍ سوريةٍ عدة، عرش الرئيس الغضنفر في مواجهة الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية، وهو الذي ورث مهمته هذه من والده.
لم يكن في تلك الأسابيع والشهور الأولى شيءٌ من “داعش” ولا الجيش الحر ولا المجلس الوطني ولا جبهة النصرة. كان شباب سوريون يهتفون أولا من أجل إصلاحٍ يرتجونه لبلدهم وناسهم، فقوبلوا بالرصاص، وضحكاتٍ بائخةٍ من بشار الأسد في البرلمان المطبوخ. لم تُسمع من الأردنيين، من النوع المتحدّث عنهم أعلاه، أي كلمةٍ تُجامل أولئك الشباب السوريين.
كانوا مذعورين من أن ينخلع الأسد الذي يحبّون، كما حسني مبارك وزين العابدين بن علي، فتتأخر مهمة تحرير الجولان، ثم فلسطين. ليس من حقّ السوريين، لا أن يتظاهروا سلميا، ولا أن يرفعوا سلاحا ضد أسرة الأسد، وإذا ابتغوا أسعارا للسلع أقل، وفرصا للعمل، وشيئا من اليُسر في الحياة، وتحسينا في أداء “الجبهة التقدمية”، فثمّة وسائل أخرى، غير التآمر والاستماع إلى المعارضات العميلة في الخارج. في وسعهم، مثلا، أن ينتخبوا شريف شحادة ونجدت أنزور في مجلس الشعب. هذا هو ظاهر منطوق ذلك النفر من القوميين واليساريين الأردنيين (من نوعٍ خاص من القومية واليسار) الذين وُجدوا في الدوار الرابع في جبل عمّان، وتمنّى مثقفون منهم على عمر الرزاز عدم قبول تكليفه برئاسة الحكومة الجديدة، لئلا يتغطّى به النظام الذي يعصى على الإصلاح، بحسب شطارة بعضهم.
كان خيار بشار الأسد في سورية واضحا، منذ أول صيحةٍ في درعا، شتاء 2011، فعلى الرغم من ربط التلفزيون السوري الحكومي الرسمي بثّه مع قناة الجزيرة ساعة فرحة المصريين في ميدان التحرير مساء تنحّي حسني مبارك، فذلك لا يعني التهاون مع المندسّين المتآمرين، بلغة فلاسفةٍ لبنانيين وإيرانيين، أشطر من موظفي وزارة الإعلام ومكتب بثينة شعبان في دمشق. كانت نصيحة هؤلاء وأولئك أن يبدأ الشّغل من أول نهار، وأن لا يتم التساهل في موضوعٍ جللٍ من هذا القبيل.
كان القرار أن ما لا يحلّ بالقوة يحلُّ بمزيدٍ منها، فلم يتنحَّ مبارك، ويهرب بن علي، لأن ملايين من المصريين والتونسيين تظاهروا ضدهما، وإنما لأنهما لم يوعزا باستخدام القوة الكافية. هذه مشورة أجهزة نظام الأسد له، كما دلّت عليها لاحقا القوة الباهظة التي رُمي بها المتظاهرون السوريون السلميون. كانت قوةً لا يلجأ إليها إلا محتلون يسترخصون حياة الرعايا المقيمين. أما البراميل المتفجرة وقذائف غاز السارين والصواريخ التي استبيحت بها مدنٌ وأريافٌ ومستشفياتٌ ومخابزُ وكنائسُ ومساجدُ وأسواقٌ بلا عدد، فالمرجوّ من الممانعين إياهم أن يخيّطوا في مسلةٍ أخرى، إذا قالوا إن هذا العتاد كله كان لتأديب متمرّدين، واستعادة سلطةٍ، والإجهاز على إرهابيين.
غصبا عنا، أخذتنا مشاركة أنصار الأسد من الشبّيحة الأردنيين إياهم، المتلوّنين بقوميةٍ ويساريةٍ، عديمتي الأخلاق والإنسانية، في اعتصامات “هبّة رمضان”، إلى تذكّر أرواح آلاف السوريين ممن أزهقهم الرصاص إيّاه، لمّا هتفوا بالإصلاح أولا وعاشرا، قبل أن يعثروا على البديهية المنسيّة، أن إصلاح سلطةٍ من طراز التي يحوزها آل الأسد يعني نهايتها، ثم بقّوا البحصة، وقالوا بإسقاط النظام…
المصدر : العربي الجديد