نعمت أوروبا بعقود من الاستقرار لأنها خرجت بالاستنتاجات اللازمة من تجاربها المريرة. سلّم الأوروبيون بأن الخيار الوحيد المستقبلي هو خيار التعايش بين الخرائط على رغم اختلاف جذور شعوبها وانتماءاتهم. سلمت أوروبا بالتعايش على قاعدة احترام حق الاختلاف بين الخرائط وداخلها. وسلّمت في الوقت نفسه بحصانة الحدود الدولية وعدم جواز شطبها أو انتهاكها.
في أوروبا الجديدة هذه لم يعد من حق دولة التدخل في شؤون جيرانها أو زعزعة استقرارهم وتشكيل ميليشيات على أراضيهم ومصادرة قرارهم. لم يعد من حق ألمانيا مثلاً اعتبار مصير الألمان المنتشرين في دول مجاورة لها من مسؤوليتها ويبرر إلحاقهم بها وتفجير الخرائط التي يعيشون فيها. صار على الدول أن تدخل عبر البوابات الشرعية وبالوسائل التي تجيزها القوانين والأعراف الدولية. ولم تعد الأدوار مرهونة بأحجام الجيوش والقدرة على الإيذاء والمحاصرة والتطويق بل صارت قائمة على النجاح الاقتصادي أو النموذج الجاذب. خير مثال على ذلك الدور البارز الذي تلعبه ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي.
اعتبرت هذه الدول أن الحدود الدولية هي فرص تعاون وعبور وليست جدراناً موصدة للعزل والحصار. ورأت أن الهم الأول للحكومات يجب أن يكون تحسين ظروف حياة المواطن والالتفات إلى التعليم وفرص العمل والبيئة والتنمية الشاملة. لم يعد لدولة الحق في اجتياح أخرى بحجة الدفاع عن قضية أو الرغبة في فرض آيديولوجية أو تغيير نمط حياة. أي أنه لم يعد من حقك أن تختار نيابة عن الآخرين وأن تقرر في غيابهم وبمعزل عن إراداتهم.
لم تكن بلدان الشرق الأوسط في العقود والسنوات الأخيرة مسرحاً لحرب عالمية مدمرة. لكن إذا أخذنا في الاعتبار نتائج الحرب العراقية – الإيرانية وغزو الكويت وغزو العراق وانفجارات «الربيع العربي»، خصوصاً في الحلقة السورية، وأضفنا إليها عذابات الفلسطينيين والأكراد، فسوف نجد أنفسنا أمام مشهد من قماشة الحروب العالمية.
صدعت انفجارات الشرق الأوسط التعايش بين الدول. وصدعت التعايش داخلها أيضاً. سقطت حصانة الحدود الدولية وتعرضت لانتهاكات مريعة، مرة على يد تنظيمات لا تؤمن أصلاً بهذه الخرائط، ومرة أخرى على يد دول ضاقت أراضيها بمشاريع حكامها فأخرجوا جيوشهم أو ميليشياتهم إلى أراضي الآخرين.
على الرغم مما أفرزته النزاعات في بعض الدول من تغييرات سياسية وديموغرافية فإن الواضح أننا لسنا في الطريق إلى ولادة خرائط جديدة أو دول جديدة. خير دليل على ذلك أن دول المربع التركي – السوري – العراقي – الإيراني تختلف على أشياء كثيرة، لكنها تتفق دائماً في لحظات الشدة على زجر الأكراد وتقليص أحلامهم سواء داخل الكيانات القائمة أو خارجها.
وربما كان الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من تجارب السنوات القليلة الماضية هو أن التدخلات في خرائط الآخرين فاقمت النزاعات القائمة، وأسست لأخرى جديدة حتى ولو بدا أحياناً أنها نجحت مؤقتاً في إنقاذ نظام أو دحر محاولة انقلاب.
وليس ثمة شك في أن أي خطوة جدية للعودة عن خيار الإصرار على السير في اتجاه الهاوية تبدأ بالعودة إلى الخرائط وإعادة احترام الحدود الدولية والإقلاع عن سياسات التفكيك والتفتيت وتغيير الملامح. لقد انتهت «دولة البغدادي». ولم يكن مقدراً لها أن تعمر. تبدأ هزيمة الإرهاب حين يختار الإقامة تحت عنوان معروف. لكن لا بد من الالتفات إلى أن «داعش» أطل من شقوق عدم الاستقرار والشروخ المذهبية ومحاولات الانقلاب التي هزت العلاقات بين الخرائط وداخلها. وأدّت معركة القضاء على «داعش»، وهي كانت ضرورية ومصيرية، إلى إطلاق ربيع التدخلات للدول والميليشيات معاً.
الآن وبعد أن كُتب ما قد كُتب في سوريا هل يمكن أن يبدأ زمن العودة إلى الخرائط؟ لنترك الوجود العسكري الروسي جانباً. لو كان شديد الإزعاج لأميركا لما تحدد موعد قمة ترمب – بوتين في هلسنكي. أغلب الظن أن معظم دول العالم تفضل رؤية سوريا الروسية على رؤية سوريا الإيرانية.
وبكلام أوضح هل تستطيع إيران التراجع عن الانقلاب الكبير الذي أطلقته تحت شعار «تصدير الثورة» وصعّدته بعد سقوط الجدار الذي كان يمثله نظام صدام حسين؟ ثمة من يعتقد أن إيران تخشى العودة إلى الخريطة الإيرانية، ليس فقط لأنها تفضل الاشتباك على أراضي الآخرين بدل الاشتباك على أرضها أو عند حدودها، بل أيضاً لأن بعض أهالي الخريطة الإيرانية خصوصاً منهم من ولدوا بعد الثورة يسألون النظام عما فعله لهم وعن سبب تقديم تكاليف «تصدير الثورة» على تكاليف تحسين ظروف حياة المواطن العادي. المشاهد الوافدة من إيران تشير إلى ذلك بوضوح ومعها الشعارات والهتافات. ويصعب تصديق أن أصابع ترمب تقف وراء هذه الاحتجاجات المطلبية والسياسية.
وبكلام أكثر وضوحاً هل تستطيع إيران بناء علاقات طبيعية مع العراق تقوم على الندية والتكافؤ والمصالح؟ وهل تستطيع أن تخرج من سوريا وتقيم معها علاقة من هذا النوع؟ وماذا عن دور إيران في لبنان؟ وماذا عن دعمها المغامرة الحوثية؟ وهل يمكن إقناع الجنرال قاسم سليماني أن على «فيلق القدس» أن يعمل داخل الخريطة الإيرانية وحدها لا أن يكون جوالاً بين الخرائط والعواصم؟
لا شك أن قرار ترمب الخروج من الاتفاق النووي مع إيران كان خبراً قاسياً على القيادة الإيرانية. فعبر ذلك الاتفاق حققت طهران مكاسب كبرى بينها تحييد أميركا وتفادي ضغوطها والحصول على أموال وتحسن الصورة مع الاستمرار في برنامج «تصدير الثورة» عبر الخبراء والمستشارين والصواريخ وسياسة زعزعة الاستقرار. كان النجاح الكبير لطهران هو تمكنها من إبقاء سلوكها الإقليمي خارج دائرة التفاوض النووية. مع خطوة ترمب أعيد ملف سلوك إيران الإقليمي إلى الواجهة، وبدأت واشنطن مسلسل الضغوط الذي يشمل مسائل حيوية بينها صادرات النفط ووجود الشركات الأجنبية وخصوصاً الأوروبية.
يصعب الاعتقاد أن طهران تنظر بارتياح إلى قمة هلسنكي. مصالح روسيا مع أميركا هي في النهاية أوسع وأهم من مصالحها مع إيران. هذا لا يعني أننا أمام افتراق قريب بين موسكو وطهران. لكن الأكيد هو أن اقتراب النار السورية من الانطفاء والتسليم بسوريا الروسية سيذكران إيران أن زمن العودة إلى الخريطة آتٍ مهما تأخر. الانتشار الإيراني الحالي أكبر من قدرة الاقتصاد الإيراني على الاحتمال. إنه أكبر من قدرة المنطقة والعالم على الاحتمال. للمنطقة مصلحة فعلية في رؤية إيران مستقرة ومزدهرة تحترم خرائط الآخرين وحدودهم الدولية، وتعيش دولة طبيعية داخل خريطتها. وللعالم مصلحة في ذلك. الخيار الآخر هو خيار الاشتباك الطويل والمكلف.
المصدر : الشرق الأوسط