كان في وسع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يرسل وزيراً، أو رئيس الوزراء في أعلى تقدير، إلى مؤتمر الطاقة العالمي الذي احتضنته تركيا، في مدينة اسطنبول. ولو استقرّ على هذا الخيار، الذي لا يبدو خارجاً عن المألوف البروتوكولي في مؤتمرات مثل هذه، فإنّ معدّلات الدفء في العلاقات التركية ـ الروسية ـ التي دشنت انطلاقها زيارةُ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى سان بطرسبورغ، في آب (أغسطس) الماضي ـ كانت ستبقى على حالها، أو لا تتقدّم إلا وئيداً.
وأن يبدأ المرء، في تقييم محتوى زيارة بوتين التركية، من ملمح إنساني وشخصي بسيط، مثل لغة الجسد أثناء تواجد الرئيسين جنباً إلى جنب خلال افتتاح القمة وفي لقاءات ثنائية لاحقة، خلال المؤتمر الصحافي المشترك؛ فإنّ حرص بوتين على الحضور بنفسه حمل دلالات واضحة، حول عزم الكرملين على الذهاب أبعد في تدفئة العلاقات بين موسكو وأنقرة. ولِمَ لا يُعتمد مبدأ الدفء على الغاز، مثلاً؛ كأنْ يوقّع البلدان، بصفة نهائية، على اتفاقية أنبوب الغاز الروسي عبر تركيا، والذي لن يتيح لموسكو أن تصدّر الغاز إلى النمسا وإيطاليا وبلدان أخرى في أوروبا الغربية، فحسب؛ بل أن تحوّل التصدير إلى سلاح جيو ـ سياسي، إذا شاءت حجبه عن أوكرانيا، مثلاً، دون تعطيل الضخّ إلى زبائن آخرين.
وفي تاريخ العلاقات الدولية، ليس جديداً ـ ولن يتقادم، البتة! ـ ذلك المبدأ العتيق الذي يُعلي المصالح الاقتصادية، خاصة حين ترتدي صفة المصلحة القومية العليا، فوق كلّ اعتبار خلافي أو تنازعي؛ أو يجمّدها، في أقلّ تقدير، ريثما تُلبّى ضرورة الاقتصاد، أو تُترجم إلى اقتصاد سياسي كما يُقال. ولقد كان جلياً أن مجيء بوتين، بنفسه، إلى مؤتمر الطاقة العالمي كان يعني تفعيل ذلك المبدأ، وتطبيقه على المسائل الخلافية: تباعد الشقة في موقف موسكو وأنقرة من الملفّ السوري، عموماً، والقصف الروسي الذي يستهدف حلب على نحو وحشي غير مسبوق، أو المدّ والجزر في قراءة موسكو لعملية «درع الفرات» التركية في سوريا، وحصّة الأكراد في هذه القراءة؛ فضلاً عن عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، وحساسية الوشائج التركية التاريخية مع الجمهوريات المسلمة داخل الاتحاد الروسي أو على تخومه.
وبعد أن انفضّ السامر، وعاد بوتين إلى موسكو؛ تماماً كما كانت عليه الحال قبل عودته، أثناء تواجده في اسطنبول؛ ظلّ الطيران الحربي الروسي يقصف حلب، بالوحشية ذاتها؛ وظلت عمليات «درع الفرات» قائمة، على قدم وساق؛ ولم يقصّر الرئيسان، أبداً، في التشديد على أنهما «أوليا وقتاً طويلاً للمشاكل الإقليمية»، حسب تعبير بوتين، وأنهما اتفقا على «وقف النزيف السوري»، رغم اختلافهما في كيفية بلوغ هذا الهدف… السامي والسلمي والنبيل!
وهكذا، فإنّ أعمال شقّ أنبوب الغاز لن تتأخر، ومثلها تصدير المنتوجات التركية إلى روسيا، وعودة السياحة الروسية إلى مواقعها الأثيرة على شواطئ البوسفور والمتوسط؛ دون أن يعني هذا، كله، أنّ موسكو دفنت نهائياً فأس البغضاء مع أنقرة (فهذه مسائل تاريخية وثقافية، لم تبدأ من إسقاط قاذفة الـ«سوخوي» في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، ولن تنتهي مع لغة الجسد المسترخية لدى الرئيسين في اسطنبول)؛ ولا يعني، في المقابل، أنّ أنقرة مسحت من الذاكرة التركية سلسلة الحروب بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، التي امتدت على أربعة قرون، وشهدت ملاحم العزّة في الانتصار ومرارات المهانة في الانكسار.
هي دبلوماسية التدفئة، إذاً، بمدفأة تشتغل على الغاز، إذا جاز القول؛ حيث توضع ملفات الماضي الشائكة على رفّ مقتضيات الحاضر الملحّة، وحيث يُتاح للبلدين أن يغمزا من قناة الولايات المتحدة، وبعض دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، وأن يوحيا بالخروج من العزلة إلى الفضاء الطلق.
المصدر : القدس العربي