يصعب هضم سوريا خلال السنوات الأخيرة، والسيرك الدولي يقيم على أراضيها وينجز عروضاً يوميّة، تبدأ من الطلعات الجويّة الروسيّة في مناطق الشمال، ثم تنتقل إلى معارك حزب الله والمليشيات الشيعيّة العراقيّة ضد الكتائب الإسلاميّة المعارضة والمموّلة من السعودية وتركيا، في وسط البلاد، مروراً بتجارب جبهة النصرة في الحكم الذاتي لمناطق من ريف حلب وإدلب، وصولاً إلى أحجيات تنظيم «داعش» وخلافته الإسلامية في الرقّة.
تلك العروض تحضرها وتديرها دولٌ من خلال وكلائها، ثم تخرج لتبحث عن غنائمها في آخر النهار، والسوريون يصعب عليهم هضم ذلك، الباقون في البلاد مثلُ الخارجين منها، كلاهما عاجزٌ عن الفاعليّة وقد فقدوا تدريجياً موقعهم الاجتماعي داخل عقل الدولة السياسي، يراقبون فقط فعاليّات السيرك الدولي على أرضهم، ويتابعون باهتمام عروضه المستمرّة، ثم يعلنون عنها بحماسة في إعلامهم الموالي، والمعارض على السواء.
الجذر الإيراني واحتمالات البقاء
تدخل إيران إلى سوريا وتقيم فيها، وكانت قد دخلتها سابقاً متمهّلة الخطى منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، وخلال حربها الطويلة مع النظام العراقي السابق (1980 -1988) بحيث صارت المقامات الشيعيّة في دمشق هي القبلة الأولى للحجاج الإيرانيين، وازدهرت معها تجارةُ خدماتٍ موسمية قبض أرباحها عدد من أصحاب الفنادق في ساحة المرجة من الذين صارت فنادقهم مع مرور الوقت متخصصة باستقبال الحجاج الإيرانيين، كما انتعشت صنوفٌ من تجارة التجزئة في حي العمارة المحيط بمقام السيّدة رقيّة، وتدريجيّاً اصطبغت منطقة السيّدة زينب في ريف دمشق بالصبغة الشيعيّة، وبنمطٍ من التجارة والخدمات أخذ بالنمو على إيقاع الطقوس الكربلائيّة المقامة سنويّاً هناك، وعرفت تلك المنطقة نشاطاً لافتاً في تجارة وبيع العقارات والسيّارا،ت رغم إهمالها خدمياً بحكم انتمائها الإداري إلى ريف العاصمة، ومع ذلك فإنّها تملك مستشفى «الخُميني» أهم مستشفيات ريف دمشق وأكبرها على الإطلاق، بسعته البالغة ثمانين سريراً، غير أنّ هذا كلّه لم يكن كافياً لأن يزكّي الحضور الإيراني لدى المجتمع السنيّ، أو لدى مجتمع الأقليات، حول ما يسمى بالتشيّع أو الدعوة إلى اعتناق المذهب الشيعيّ، فلم تظهر أيّ دراسة بهذا الخصوص إلا في عام 2006.
وبقي النظام السوري خلال الثمانينيات والتسعينيات يلعب جيداً بالتوازنات الاستراتيجية، يقدّم بيد، ويأخذ باليد الأخرى، مجسداً مثالاً براغماتيّاً مهماً عن الأنظمة الشمولية الطموحة في العالم الثالث، دعم إيران سياسياً في حربها ضد العراق، وقبض دفعةً من ثمن دعمه مارس عام 1982 حين أبرم اتفاقاً في طهران على استيراد 9 ملايين طن من النفط الخام الإيراني سنوياً مقابل تصدير 300 ألف طن من الفوسفات الخام، كانت إحدى المقايضات الرابحة للسوريين، بعد حساب الفارق الكبير بين سعر النفط الخام والفوسفات حينها، ولم تكن الاتفاقيّة الاقتصاديّة الأولى على أيّ حال، إذ أنّ أول اتفاقٍ للتعاون الاقتصادي بين البلدين يعود إلى زمن الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي وبالتحديد إلى عام 1974، وبموجبه حصلت سوريا على قروضٍ فاقت قيمتها 350 مليون دولار جاءت لتمويل مشاريع في قطاعي الصناعة والزراعة.
استثمارات إيران بعد عام 2006
ظلّت القراءة السياسية والاجتماعية للحضور الإيراني في سوريا متريّثة في استنباطِ معانٍ غير واقعيّة، أو ذات طابع تهويميّ حتى عام 2006 حين تبلور موقف سياسي غير رسمي معارض لتوسّع الدور الإيراني في المنطقة، تبنّاه وقتذاك عدد من السياسيين السوريين المعارضين، وعدد من الكتاب والمثقفين وناشطي المجتمع المدني، من الذين وقّعوا على إعلان بيروت دمشق الشهير، حينها كانت إيران ثالث دولة تمتلك أكبر حجم للاستثمارات داخل سوريا بعد تركيا والسعوديّة، إذ زادت قيمة استثماراتها عن 400 مليون دولار، وفي عام 2010 كان حجم الاستثمار الإيراني داخل سوريا قد تجاوز عتبة 1.5 مليار دولار، من بينها مصنع لإنتاج السيّارات في مدينة عدرا الصناعيّة بقيمة 60 مليون دولار، ومصنع لإنتاج الإسمنت في مدينة حماه بقيمة 200 مليون دولار.
حصل التمدد اللافت في الاستثمارات الإيرانيّة فيما يعيد النظام السوري صياغة اقتصاده بعد عام 2005 على أسس ليبراليّة فجّة لم تراعِ الخريطة الديموغرافيّة، ولا مصير الطبقة الوسطى والفقيرة بعد تسليم مفاتيح البلاد إلى ساسة السوق المفتوح، أبناء الطبقة الجديدة من أثرياء السلطة، التوّاقين إلى تعظيم ثرواتهم.
الحرب دفاعاً عن الاستثمار
وضعت إيران كل أوراقها على طاولة الحرب في سوريا، الخبرة القتاليّة لحزب الله اللبناني، خلال صراعه العسكري الطويل مع إسرائيل، والخلاصة التقنيّة لتدريبات ضباط الحرس الثوري الإيراني، لا تريد أن تخسر امتدادها الجيوسياسي في سوريا ولا استثماراتها المهمة هناك، إن سقط النظام القائم، حتى أنها بدأت تؤسس لتواجدها جديّاً داخل النسيج الاجتماعي، لدى الأقليات في تقوقعاتها المناطقيّة، فأسست في اللاذقية مجمع الرسول الأعظم بأهدافه التكافليّة المعلنة، وأنشأت في السويداء مستشفى الوعد الصادق، وفتحت الباب لانخراط أبناء الأقليات في تشكيلات مقاتلة رديفة لحزب الله، وصارت رغباتها الاستثمارية أكثر وضوحاً بعد عام 2012، حيث أبرمت اتفاقيّة للتجارة الحرة مع السلطة السوريّة في شهر أبريل من ذاك العام، ثم سعت إيران بصورة غير مباشرة إلى تمويل عجز النظام السوري مالياً اعتباراً من عام 2013 عبر منحه سلسلة من القروض جاءت تحت مسمّيات «خطوط ائتمانيّة»، وكان أولها بقيمة مليار دولار وذلك في شهر يناير، وجاء القرض الثاني في شهر أغسطس بقيمة 3.6 مليار دولار.
إيران تريد استثمارات واسعة في قطاعات حيويّة مثل قطاع الطاقة، خاصةً توليد الطاقة الكهربائية، كما تريد إطلاق يدها في قطاع النفط، وفي قطاع البناء أيضاً، ولعل الاتفاق الذي أبرمته مع الحكومة السوريّة في منتصف شهر مارس عام 2015 يشهد على ذلك، حينها قال وزير المالية السوري: «سيكون لإيران دور أساسي في عملية إعادة الإعمار»، وقال يومها وزير الاقتصاد والمالية الإيراني: «هذا الاتفاق يؤسس لمرحلة جديدة من التعاون بين البلدين»، وفي أواخر شهر مايو من العام الماضي صرّح مدير عام هيئة الاستثمار السورية بأن مستلزمات إعادة الإعمار قد جذبت اهتمام الجانب الإيراني خلال لقاءٍ جمعهم مع السفير الإيراني بدمشق.
الغنائم الأخيرة خمسة استثمارات
تتحدث المعارضة السورية منذ سنوات عن تنامي ظاهرة التشيّع في سوريا، أكثر مما تتحدث عن مكاسب إيران الاستثمارية، لديها تصورّات كاملة عن عمليات نقلٍ لملكية عقارات وأراضٍ كثيرة في دمشق وريفها وفي حمص وريفها، وكذلك في حلب وريفها من أصحابها الأصليين إلى أشخاصٍ إيرانيين، وفي مرّاتٍ كثيرة استنتجت مقدار التوسّع الأفقي للمال الشيعي وهو يشتري الأراضي في المناطق الآمنة، وهذه هواجس تلمس حدود الخوف أكثر من كونها تتودد من اليقين، فكلما أمسك الباحث طرف خيط ولاحق عملية بيع لعقار مبالغ في قيمته السوقيّة، وجد أن الشاري هو مواطن محليّ، وبحسب متخصصين في تعقيب المعاملات العقاريّة فإنه يصعب إثبات حدوث عمليات انتقال واسعة لملكيات بيوت أو عقارات من مواطنين سوريين إلى مواطنين أجانب على الأقل في بيانات الصحيفة العقارية الخاصة بكل عقار، ويبدو أن إيران لا تحتاج إلى غطاء من السريّة والكتمان، إن رغبت بتملك أو استثمار العقارات والأراضي داخل سوريا، وهذا ما يتضح بعدما أمسكت إيران بيدها مطلع العام الحالي خمسة استثمارات مهمة جداً، رغم شراسة المنافسة الروسية على بازار الغنائم التي يعرضها النظام الحالي على حلفائه، وبحسب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري، فإن إيران ستستثمر أراضي زراعية في محافظة اللاذقية، بالإضافة إلى استثمارها لمنجم فوسفات، واستثمارات أخرى بقيمة 500 مليون دولار، كما حصلت إيران أيضاً على رخصة للمشغل الخليوي الثالث في سوريا بقيمة 350 مليون دولار.
ينظر السوريون إلى بلادهم بعيونٍ مستلبة، وكأنهم فائضٌ لا قيمة له في حسابات صراع ٍ ضرير جعلهم يتفقدون جثثهم الصباحيّة ويرشّون فوقها الملح، كي لا تفسُد خلال ساعات تقنين الكهرباء، التي باتت تتجاوز العشرين ساعة، وفي محنة برد فبراير حيث لا وقود للتدفئة، وحيث الأمل لا يصلح لأن يكون وقوداً على الإطلاق.
المصدر : القدس العربي