اقتصادمقالات

سينابس نتوورك – تكالب على أشلاء سورية .. بلاد مقفرة من الشباب اقتصادها مشلول

غيّرت الحرب السورية وجه البلاد فتشظت تشظياً يعصى التحليل والوصف. وعلى رغم أن شطراً راجحاً من أوجه تغيرها هو إلى الاسوأ، بعض هذه المحنة يبعث على التفاؤل: فالسوريون أظهروا قدرة هائلة على التكيف مع مراحل هذا النزاع الرهيبة، وانتشلوا من ردم الخراب بقايا كرامة ولحمة وحيوية في هذه الظروف الكابوسية. والوقوف عند أوجه تغير المجتمع السوري عسير ولن يجلو على صورة واضحة قبل مرور الوقت.

بلاد مقفرة من الشباب

وهلاك الذكور السوريين هو أبرز منعطف طرأ على النسيج الاجتماعي السوري. فجيل كامل من الرجال قضى، أو نزلت به إعاقة أو اضطر إلى النزوح والاختفاء من دون أثر، ومن تبقى بلعته دوامة نظام عنف وفساد محورها الفصائل المسلحة. وقصة عائلة علوية في بلدة ساحلية هي مرآة انكماش شريحة الذكور في سورية: ثلاثة أشقاء، واحد سقط في معركة، والثاني أصابت رصاصة عموده الفقري وصار طريح الشلل، والثالث في الثلاثين من العمر يتقاضى راتباً متدنياً لا يكفي لسد الرمق ويعيش في خوف من التجنيد. وتقول والدتهم ملخصة أزمتهم: «تعبنا من الحرب. قدمت شهيداً، وابني صار شبه ميت، وآخر العنقود يخشى التجنيد في أي لحظة. أدعو الله أن تنتهي هذه الحرب. فالقبور متخمة بالشباب». وقصة هذه العائلة هي قصة كثير من العائلات في هذه البلدة التي يبلغ عدد سكانها 3 آلاف نسمة، وهي مرآة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في كثير من جماعات سورية وثيقة الصلة بالجهاز الامني العسكري. وقضى 80 رجلاً من رجال البلدة هذه وجرح 130 منهم، أي ثلث الذكور في سن بين الثامنة عشرة والخمسين. والتحق الثلثان المتبقيان بالجيش أو الميليشيات. والعنف الذي استهلك كثيراً من الحيوات أنتج مصادر دخل لا غنى عنها. فهذا الشاب المصاب بالشلل يعتمد على راتب تقاعدي قدره نحو 60 دولاراً شهرياً. وتتلقى أرملة أخيه معاشاً قدره 35 دولاراً من الميليشيات التي كان يقاتل في صفوفها حين أردي في المعركة. وهذه العوائد لا تكفي لقمة العيش، ويضطر أفراد العائلة هذه الى التقشف. فالوالد، وهو جندي متقاعد، والابن يعملان ليلاً نهاراً لتأمين لقمة العيش.

ومثل هذا الضيق متفشٍ في مناطق سبق أن سيطرت عليها الفصائل المعارضة، وعادت إلى قبضة الأسد. فكثير من الشباب قتلوا أو اضطروا إلى الرحيل، ومن بقي في مسقط رأسه يضطر إلى الانضواء في المجموعات الموالية للنظام من اجل النجاة وتأمين مورد عيش. فالانتساب إلى هذه المجموعات هو بديل عن التجنيد في الجيش النظامي، وهو بديل يدر راتباً أفضل ويجنب المنتسب إرساله الى جبهة أمامية بعيدة. ومآل الناس في حلب بعد سقوطها هو خير دليل على ما نسوقه. بعد سنوات من حصار الحكومة والقصف، لم يبق في المدينة خدمات يعتد بها، واقتصادها مدمر، وغياب الأمان متفشٍ جراء انتشار الميليشيات المسلحة. «إذا أراد المرء حماية نفسها وعائلته، عليه الانضمام إلى ميليشيات، يقول رجل في متوسط العمر في حي الجزماتي بحلب». المنطقة موبوءة بجرائم ميليشيات الدفاع الوطني. وكل مجموعة تسيطر على حي، وأحياناً تتقاتل فيما بينها لتقاسم الغنائم. وعلى أصحاب المتاجر دفع الأتاوى للميليشيات مقابل الحماية. وأحد اصحاب المتاجر رفض الدفع، فأحرقوا متجره. لذا، يبدو أن حمل السلاح «طبيعي». ووصف أحد المقيمين في مساكن هنانو هذه الدينامية: «الشباب الذين لم يغادروا شرق حلب التحقوا بالميليشيات التي تقدم حلولاً لأسوأ المشكلات التي نواجهها. فالمقاتلون يتقاضون راتباً محترماً، وبدلات أخرى على غرار أمبيرات كهربائية إضافية من أصحاب المولدات الخاصة. فبائعو الكهرباء يقلصون ثمن الاشتراك بالتيار الكهربائي حين يعرفون أنهم يتعاملون مع ميليشياوي». ويشرح مقيم آخر في المنطقة هذه أنه وعائلته يدبرون أمورهم بشق النفس، وأن الفضل في تأمين لقمة العيش يعود إلى انضمام ولديه إلى كتيبة الباقر الإيرانية الولاء- التي تمنحهما دخلاً شهرياً، وفرص وضع اليد على أثاث منزلي في عمليات نهب». وعلى امتداد سورية، من يرغب في النجاة من التجنيد- في الجيش أو الميليشيات على حد سواء- لا يجد أمامه خيارات يعتد بها. ومن يسعه مغادرة البلاد يغادر، وبعضهم يستفيد من إعفاءات الطلاب الجامعيين، في وقت يتمتع بعض آخر بمكانة المعيل الوحيد لأسرته النواتية فيعفى من الخدمة الإلزامية. وبعضهم يدفع رشاوى لتجنب التجنيد أو يعتزلون العالم في منازلهم مخافة رصدهم وانكشاف أمرهم- فيعيشون في الخفاء. ويروي شاب تجربته إثر سيطرة القوات الموالية للنظام على مسقط رأسه في ريف دمشق في 2016: «كنت أمام خيارين، إما دفع 3 إلى 4 آلاف دولار لتهريبي الى تركيا او لبنان، وإما الاتحاق بالجيش أو ميليشيا من الميليشيات. وفي بلدتي ثمة 9 فصائل مسلحة أو أكثر، على رأسها شباب مقربون من أجهزة الأمن. ومن يرغب في القتال، يُسجله زعيم الفصيل المسلح في لوائح المقاتلين، فيسعه مواصلة حياته العادية مقابل دفع رشوى تتراوح بين 500 إلى ألفي دولار، والتنازل عن راتب الميليشيات الشهري ويبلغ نحو 100 دولار. وكلفة تهريبي إلى الخارج باهظة- وعندي زوجة وأولاد في البلدة. لذا، أنفقت أكثر من ألف دولار لتسوية أموري مع فصيل مسلح. ولكن، ولحظي التعس، انحل هذا الفصيل، وخسرت أموالي وحرية حركتي. واليوم أنا سجين منزلي، وأعتاش من مدخراتي ومساعدة العائلة. ولا أدري ما العمل».

ويعوق دورانَ العجلة الاقتصادية تدمر القوة العاملة من الذكور. فيقول صناعي من حلب إن أصدقاءه هم أصحاب مصانع، ويريدون فتح أبوابها، ولكنهم لا يعثرون على عمال. وحين يجدون العمال، تأتي قوى الأمن أو الميليشيات وتقبض عليهم، وتبتز الأموال من أصحاب المصانع الذين وظفوهم. والصناعة المحلية أمام طريق اقتصادي مسدود، وتذليل العوائق يحتاج إلى أعوام.

وعلى المستوى السياسي، قوضت الحرب جيل الشباب الذي كان على رأس الانتفاضة السورية. ومن بقي في سورية هم من انكسرت شوكتهم وصدعوا بالنظام- أو أُلحقوا قسراً في جهاز القوة الذين قاموا وانتفضوا عليه. والحصيلة متناقضة: على رغم أن المشكلات كلها التي اشعلت فتيل انتفاضة سورية في 2011، تعاظمت، انكسر المجتمع ولن تبرز حركة اصلاحية واسعة القاعدة قبل جيل.

اقتصاد الكواسر

ويفاقم أحوال الشباب المأساوية تحول ثان في المجتمع (إلى انحسار أعدادهم) وهو انفراط عقد الاقتصاد الانتاجي السوري، وتربع اقتصاد نهش منظم محله: انقضاض شرائح من المجتمع السوري على بعضها من أجل النجاة والبقاء. وأبرز أمارات هذا الاقتصاد هو ثقافة السرقة والنهب التي صارت راسخة ومنتشرة في المجمع السوري، واشتقت كلمة تعرفها: التعفيش، وهذا ليس سرقة الأثاث فحسب بل تجريد المنازل والشوارع والمصانع من إمدادات الكهرباء والمياه (امدادات السمكرة). وخير مثل على التعفيش هو ما حصل حين سقط مخيم اليرموك جنوب دمشق في أيدي قوات موالية للأسد في نيسان (أبريل) 2018. فاندلعت إثر سقوطه موجة نهب تواصلت فصولها الى نهاية حزيران (يونيو)، وخلفت ندوباً لا تمحى في النسيج المديني. وبلغ النهب مبلغاً وقع وقع المفاجأة على بعض المقاتلين في ميليشيات الأسد. فأملاكهم كانت لقمة سائغة أمام الفصائل الأخرى: «شاهدت جنوداً غير نظاميين على متن دبابات الجيش النظامي يقتلعون كابلات كهربائية ممدودة على عمق 6 أمتار»، يروي مقاتل فلسطيني موال للنظام كان يسعى إلى استخراج ممتلكاته من شقته قبل نهبها. «شاهدت جنوداً من قوات النخب ينهبون المستشفيات الخاصة والمكاتب الحكومية، هذه ليست سرقة فحسب، بل تخريب للبنى التحتية». وروى سكان محبطون ويائسون أنهم دمروا بأيديهم ممتلكاتهم للحؤول من دون أن تستغلها المجموعات المسلحة. ويقول رجل دمر شقته: «عدت إلى شقتي لآخذ وثائق رسمية وبعض المجوهرات. ثم دمرت أثاث منزلي وأجهزته الكهربائية لأنني لا أريد أن يجني أشخاص الأموال على حسابي. كنت مستعداً لتفجير شقتي، ولكن زوجتي منعتني. فهي لم ترغب في الحاق الضرر بشقق المبنى الأخرى». ومع تفشي هذا الوباء في سورية، نجم عن عمليات النهب اقتصادات مجهرية- بدءاً من إعادة تدوير المطاط وصولاً الى بروز اسواق التعفيش حيث يشتري الناس سلعاً مستعملة مسروقة من سوريين آخرين. وكثيرون لا يملكون خياراً غير اللجوء الى هذه الاسواق لشراء بديل عن ممتلكاتهم المسروقة. ويروي موظف مدني ما حصل معه حين عاد إلى مدينته في دير الزور بعد عامين من النزوح الى دمشق: «في تشرين الأول (أوكتوبر) 2017، أُمرت بالعودة إلى دير الزور واستئناف عملي الحكومي. ووقع عليّ وقع الصدمة دمار شقتي كلها، وسرقة كل ما فيها. وساعدني أخي على العثور على غرفة للايجار، واشترى لي بعض الأثاث المسروق. فخسارة أهالي دير الزور مزدوجة: خسرنا في وقت أول أثاث مطابخنا وغرف نومنا وكل شيء، ثم شعرنا بالخسارة من جديد حين اشترينا سلعاً مسروقة».

والنازحون السوريون العائدون إلى بيوتهم عليهم تذليل مصاعب العودة: فإلى دمار ممتلكاتهم وسرقتها، يواجهون سيلاً من الحواجز غير الرسمية التي تفرض عليهم إتاوات مقابل خدمات أساسية غير موجودة. ويروي تاجر نسيج من حلب القديمة تجربته: «أنفقت 3 ملايين ليرة سورية (6 آلاف دولار) لأعيد فتح متجري المدمر. وطالبتني وكالات الحكومة بدفع ثمن فواتير مياه وكهرباء وضرائب على الارباح بين 2013 و2017. وقلت أن متجري كان مغلقاً طوال هذه المدة، ولم أكن أجني الاموال ولم استخدم الكهرباء ولا المياه. ولكنهم ألزموني دفع مقابل هذه الخدمات التي لم أستعملها. وأنفقت نحو 7 ملايين ليرة (13500 دولار) لشراء أنسجة وأقمشة. فكل ما في متجري نُهب. ومجموع ما دفعت هو 10 ملايين ليرة [20 ألف دولار] لأعيد فتح متجري. واليوم، أربح نحو 6 إلى 8 دولارات يومياً، وهذا بالكاد يكفي ثمن الغذاء والكهرباء والمياه والضرائب. ولكنني أفضل أن أزجي أوقاتي في السوق عوض البقاء في المنزل وأصابتني بأمراض القلب نتيجة كثرة التفكير».

وشطر راجح من اقتصاد النهب السوري وثيق الصلة بالعنف، فالحرب ولدت أشكالاً لا تحصى من النهب ستتعاظم في السنوات المقبلة. فاقتصاد «النهش» يشمل كل من يعتمد على السلب لتأمين لقمة عيشه، ومنهم محامون ومسؤولون أمنيون وموظفون حكوميون يؤدون دور «الوسيط» في السوق مقابل وثائق رسمية مثل وثائق الولادة والزواج والوفاة. وأعداد لا تحصى من السوريين لم يوثقوا مثل هذه الوقائع (زواج، ولادة، وفاة) حين كانوا في مناطق خارجة على سيطرة الحكومة. ومقابل تفادي عقوبات قانونية في سورية وخارجها، يدفعون مبالغ باهظة للوسطاء من أجل تيسير إصدار أوراقهم الثبوتية ووثائقهم. ويروي محام سوري كيف غيّر هذا الاقتصاد وجه مهنته في دمشق: «اليوم حتى أكبر المحامين وأكبرهم مرتبة يعمل في مجال «سمسرة» الأوراق. فالوسيط الذي له شبكة واسعة من الارتباطات يجني يومياً ما بين 30 إلى 40 الف ليرة (60 إلى 80 دولاراً)، وهذا يضاهي الراتب الشهري لخريج جامعي موظف في دائرة رسمية. لذا، يستقيل كثيرون من الموظفين الحكوميين، ويعملون في السمسرة لجني عائد أكبر. وهذا العمل لا يمت بصلة إلى العمل الخيري: فكل وسيط يأخذ المال من زبائنه، وحتى من اخوته وشقيقاته. ففي الاسبوع الماضي، عرفني زميل لي في المهنة إلى صهره، وطلب مني إنجاز أوراقه. وسألته عن حاجته إليّ في وقت يسعه هو إنجاز الأوراق كلها. فقال لي إنه لا يستطيع تقاضي المال من صهره، على خلاف حالي. فأنا أستطيع تقاضي المال وتقاسمه معه». واقتصاد الكواسر هذا سرع وتيرة هرب رؤوس الأموال والكفاءات من سورية، وبقيت في البلاد طبقة دنيا عريضة لا تطمح إلا للبقاء. والسعي إلى البقاء يحمل عامة السوريين على الدوران في حلقة مفرغة من حلقات اقتصاد الكواسر – وإذا لم يصيروا كواسر مباشرة، تحولوا إلى شركاء أو مستفيدين من النهب من طريق شراء سلع منهوبة والاعتماد على أقارب يتوسلون الابتزاز لجني المال، وهكذا دواليك. واقتصاد الحرب في سورية، ويغلب عليه النهب والتكالب على جمع المال، يستقر ويتحول شيئاً فشيئاً إلى اقتصاد وقت السلم.

المصدر : الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى