في منتصف حزيران من عام 2011، دخلت مجموعة مكونة من عشرات المدنيين السوريين الأراضي التركية لأول مرة منذ بدء الثورة، هرباً من حملة عسكرية شنتها قوات الأسد آنذاك، لإعادة فرض القبضة الأمنية على مدينة جسر الشغور بريف إدلب.
هذا الحدث ما لبثت أن تكرر، مع توسيع الحملات العسكرية والأمنية في أنحاء سوريا، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم لا يزال اجتياز الحدود التركية هدفاً لكثير من السوريين الهاربين من جحيم الحرب، إلى أن باتت تركيا في صدارة الدول المضيفة للاجئين السوريين حول العالم، ويحظى فيها السوريون الذين أصبحوا يلقبون بـ “المهاجرين” بميزات لا يمكن أن يجدوها في دول الجوار الأخرى.
في الأعوام الأربعة الأولى من عمر الثورة السورية، مثّل اجتياز الحدود بالنسبة للسوريين، مهمة غاية في السهولة، من الناحية المادية، والنفسية، وغالبا ما كانت تفتح المعابر التركية الرسمية أبوابها أمام جميع الراغبين، شريطة تقديم أي وثيقة إثبات للشخصية، لكن هذه المزايا سرعان ما تلاشت، وفي عام 2015 أغلقت السلطات معابرها الحدودية أمام اللاجئين، وفي العام التالي، أوقفت السلطات استصدار تأشيرات دخول “فيزا” للسوريين من دول ثالثة، وكان هذا بمثابة أول إعلان غير رسمي برغبة تركيا وضع سقف لعدد السوريين على أراضيها، وبالتالي انتهاء صلاحية لقب “المهاجرين”.
اليوم بالإمكان القول، إن اللاجئين السوريين في تركيا، ولا سيما مدينة اسطنبول يعيشون أسوأ أيامهم، في ظل حملة أمنية أطلقتها السلطات في 16 تموز الجاري، لملاحقة من تعتبرهم مخالفين في نظام الحماية المؤقتة، إما بسبب عدم تسجيلهم لدى إدارة الهجرة، وحصولهم على بطاقة “الكملك”، أو بسبب إقامتهم في ولاية، وتسجيل قيودهم في ولاية أخرى، وأسفرت الحملة وفق ما يقول صحفيون سوريون عن ترحيل عشرات اللاجئين إلى الداخل السوري.
ويرى مراقبون أن التحول في الموقف التركي الرسمي تجاه اللاجئين السوريين مرده عدة عوامل، في مقدمتها خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم رئاسة بلدية اسطنبول التركية لصالح غريمه حزب الشعب الجمهوري المعارض، حيث يسعى الحزب الحاكم، لاستعادة أصوات شريحة واسعة من المواطنين الأتراك، الذين يبدو أنهم اقتنعوا بوجهة نظر المعارضة في عدة قضايا، بما فيها استضافة اللاجئين.
ويواجه السوريون في تركيا حملات تحريض على مواقع التواصل؛ تُتهم جهاتٌ بالمعارضة التركية في إثارتها بهدف تأليب الرأي العام تجاه الحكومة، وتعتمد معظم تلك الحملات على ترويج معلومات مغلوطة في الغالب، حول اللاجئين السوريين، وفيما يلي أبرز الإحصائيات الرسمية حول السوريين في تركيا.
وفقا لآخر إحصائية أعلنتها إدارة الهجرة التركية في 11 تموز الجاري، بلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا 3 ملايين و630 ألفاً، و575 شخصا، من بينهم مليون و965 ألفا و595 من الذكور، ومليون 664 ألفا، و980 من الإناث.
وبحسب موقع “جمعية اللاجئين” التركي تتصدر اسطنبول الولايات التي تستضيف لاجئين سوريين، مسجلين في نظام الحماية المؤقتة بـ 547 ألفاً و479 لاجئا، تليها ولاية غازي عنتاب بـ 443 ألفا و290 شخصاً، ثم شانلي أورفا بـ 430 ألفا و537، وإقليم هاتاي بـ 429 ألفا و293، ويتوزع باقي اللاجئين بالترتيب على الشكل التالي:
(أضنا – مرسين – بورصة – إزمير – كلس – قونيا – أنقرة – كهرمان مرعش- ماردين – قيصري – كوجايلي “إزميت” – عثمانية – ديار بكر – ملاطية – أديامان – باتمان)
ويشكل اللاجئون السوريون في بعض الولايات الصغيرة كثافة مرتفعة من نسبة السكان الأتراك، يصل ذلك في ولاية كلس إلى 81،41%، في حين بلغت نسبة السوريين في عموم تركيا 4.43٪ من إجمالي عدد المواطنين الأتراك البالغ أكثر من 82 مليون نسمة.
وبلغ عدد الأطفال السوريين المولودين على الأراضي التركية 457 ألفا، بمعدل يقدر بـ 52 ألف طفل كل 3 أشهر، بحسب تصريح أدلى به وزير الداخلية التركية سليمان صويلو في 18 أيار 2019.
فئات عمرية حية
وتشير الأرقام إلى أن فئة الأطفال الذين لم يبلغوا سن 18 عاما، تشكل الشريحة الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا، بنسبة 46،38 %، وعددهم مليون و684 ألفا و207 أطفال، فيما يبلغ عدد الشباب من الفئة العمرية ما بين 19 – 39 عاما، 811،680 شاباً، ويقدر المعدل الوسطي لأعمار السوريين بشكل عام بين 20 إلى 30 عاما، وفق إحصائيات رسمية متفاوتة.
ومع سعي الحكومة التركية إلى تخفيف التكاليف الاقتصادية للاجئين السوريين، تراجعت أعداد اللاجئين القاطنين في المخيمات إلى نسبة لا تتجاوز 2،85 % وعددهم 103،579 شخصا، في تموز 2019، بعد أن كان العدد يصل إلى 228 ألفا أواخر 2017، فيما يعيش البقية في منازل بنظام الإيجار، ويدفعون ضرائب ورسوم مثل بقية المواطنين الأتراك.
حياة شاقة!
وفي شباط 2015، فرضت الحكومة التركية على اللاجئين في الحماية المؤقتة شرط الحصول على تصريح للعمل في القطاع الخاص أو العام، ومنحت منذ ذلك الوقت تصاريح عمل لـ 31 ألفا و185 لاجئا سوريا، وفق ما ذكرت وزارة العمل في آذار 2019.
وتعمل النسبة الأكبر من السوريين (سكان المدن) في مهن لم يألفوها في السابق، كالمعامل، والإنشاءات، وفي الزراعة، ويتلقون أجورا شهرية لا تتساوى مع نظرائهم الأتراك وذلك بسبب عدة عوامل، أهمها اللغة وقد ألزمت الحكومة في قانون 2015 أرباب العمل أن لا يقل راتب العامل السوري عن القيمة الصغرى للمعاش الشهري، وهي 2020 ليرة تركية (نحو 400 دولار).
وتتلقى فئة من اللاجئين السوريين مساعدات مالية شهرية من الاتحاد الأوربي، عبر الهلال الأحمر التركي، بقيمة 120 ليرة عن كل شخص، لكن هذه المساعدات تصطدم بعدة شروط، منها أن يكون اللاجئ معاقاً جسدياً بنسبة أكثر من 50 في المئة، أو أن يكون عدد الأطفال في العائلة الواحدة 3 ومافوق مع وجود معيل وحيد فقط.
استثمارات ضخمة!
وفي حين تشكل حجة تراجع الاقتصاد التركي، إحدى حلقات التحريض على السوريين بزعم أنهم السبب في ذلك التراجع، كشفت جمعية رجال ورواد الأعمال السوريين (سياد) أن قيمة استثمارات السوريين في تركيا بلغت نحو 1.5 مليار دولار.
وبلغ عدد الشركات السورية في تركيا 15 ألفاً و159 شركة، وذلك حتى شهر شباط من العام الحالي، أما مجال العقارات فقد جاء السوريون في المركز الثاني بنسبة 12%، يليه البناء بـ 8%، من ثم مجال التصنيع بـ6%.
وتصدّرت مدينة غازي عنتاب قائمة الولايات التركية الأكثر احتضاناً للشركات السورية بألفي شركة، بينها 80 شركة صغيرة ومتوسطة مسجلة لدى غرفة الصناعة، و650 شركة أخرى مسجلة لدى غرفة التجارة، حيث تعمل نسبة 60% منها في إنتاج الأغذية، فيما يأتي مجال صناعة الأحذية بالمركز الثاني.
وحظيت فئة الشبان السوريين بتسهيلات قدمتها الحكومة التركية للمنقطعين عن الدراسة الجامعية، عبر إصدار قانون الاستكمال، وإتاحة مقاعد بشكل أكبر للسوريين مقارنة ببقية الجنسيات في الجامعات.
وفي مطلع العام الجاري، أعلنت وكالة “المراقبة والمتابعة لوسائل الإعلام (PRNet) أن عدد الطلاب السوريين في الجامعات التركية بلغ 20 ألفًا و701 طالب سوري، في مختلف الاختصاصات الأدبية والعلمية والطبية، وتتصدر جامعة اسطنبول صدارة الطلاب السوريين، تليها جامعة غازي عنتاب.
وجرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تكريم عشرات الطلاب السوريين لحصولهم على المراتب الأولى في الجامعات التركية، متفوقين على نظرائهم الأتراك والعرب.
وفي سعيها لاحتواء حملات التحريض، تحرص الجهات الحكومية ووسائل الإعلام المقربة منها على دحض كل الشائعات والمعلومات المغلوطة التي تستهدف السوريين في تركيا.
ففي تموز الجاري، أكدت وزارة الداخلية التركية أن نسبة الجرائم التي ارتكبها السوريون في تركيا، مقارنة مع النسبة العامة تظهر أنها ضئيلة للغاية، فقد بلغت 1.32% أي أقل من واحد ونصف بالمئة، وذلك ما بين أعوام 2014-2017.
وفي شباط الماضي الصحيح نشرت رئاسة “حقوق الإنسان” التابعة لحزب العدالة والتنمية، تقريرًا مطولا حمل عنوان (حقوق اللجوء)، بهدف الرد على الشائعات التي تلاحق السوريين.
وبين التقرير أن وضع الطلاب السوريين كوضع بقية الطلاب الأجانب، لا يمكنهم دخول الجامعات دون الخضوع للامتحانات المخصصة للأجانب، وأكد أيضا أن السوريين يدفعون الضرائب مثل أي أجنبي أو مواطن.
وبلغ عدد الحاصلين على الجنسية التركية من السوريين 92 ألفا وفق ما ذكرت وزارة الداخلية، وذلك بموجب قرار التجنيس الاستثنائي، الذي أقرته الحكومة في عام 2016، واستهدف فئة محددة من الذين تستفيد منهم الدولة، كالأطباء والمعلمين، والطلبة.
وبالرغم من تضاؤل الآمال في الحل السياسي القريب في سوريا، إلا أن معظم اللاجئين يفكرون في العودة في حال انتهاء الأسباب التي دفعتهم للجوء، حسبما تشير الأرقام.
فحتى شهر أيار الماضي بلغ عدد السوريين العائدين إلى بلدهم بعد العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا في الشمال السوري 329 ألفا وفق الداخلية التركية.
عبد القادر المحمد – خاص وطن اف ام