تسعى إدارة باراك أوباما، قبيل مغادرة البيت الأبيض، لتسجيل انتصار، يحسب لها، لا سيما في الشرق الأوسط، لتأتي عملية تحرير الموصل من قبضة “داعش”.
من أبرز المشاكل، التي تتعلق بطرد مسلحي داعش من “عاصمتيه” الموصل والرقة، الفراغ الذي سيولده التنظيم في هاتين المدينتين، أولاً، وأزمة الثقة ما بين القوى، التي تحارب التنظيم ثانيًا، والتي كانت عاملا في إطالة عمر “داعش”.
كانت الولايات المتحدة، ترغب بأن يطرد مسلحو تنظيم “ب ي د” الإرهابي “داعش” من الرقة (غالبية سكانها من العرب)، إلا أنها تعي بنفس الوقت صعوبة سيطرة “ب ي د” على المدينة.
فأرادت لقوات “ب ي د” الدخول الى الرقة، بعد تمكينها من الربط بين المناطق، التي تسيطر عليها من القامشلي بمحافظة الحسكة حتى عفرين، وتأسيس إدارة مستقلة ثم التعاون من أجل الدخول إلى الرقة.
لهذا رأينا سيطرة “ب ي د” على مدينة منبج، شرقي نهر الفرات، ثم وضع مدينة الباب نصب أعينه، من أجل الوصول إلى عفرين، ومن ثم تأتي عملية تحرير الرقة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.
اصطدم هذا المخطط، بعملية “درع الفرات”، التي بدأت في 24 أغسطس/آب الماضي، بقوات الجيش الحر وبدعم من تركيا، واستعادت مناطق شاسعة كانت خاضعة لسيطرة داعش على الحدود السورية.
ومن بين تلك المناطق مدينة جرابلس وبلدة دابق، لتتأجل معركة الرقة وتحل محلها معركة الموصل، شمالي العراق.
علينا أن نحدد بداية المحاور الداخلية والخارجية المشاركة في عملية تحرير الموصل، والأهداف التي تسعى لتحقيقها ما بعد طرد “داعش” من الموصل.
من أبرز القوى الداخلية الجيش العراقي، التابع للحكومة المركزية ببغداد، وحكومة الإقليم الكردي في العراق، والحشد الشعبي (ميليشيا شيعية)، والقوات التي دربتها الولايات المتحدة لتحرير الموصل، والحشد الوطني، الذي دربته تركيا، ومجموعات مرتبطة بمنظمة “بي كا كا” الإرهابية.
يسعى الجيش العراقي لدخول الموصل والسيطرة عليها، إلا أنَّ هذا الجيش فقد قدراً كبيراً من وصفه بأنه “جيش وطني” وينظر إليه سكان الموصل بأنه جيش “شيعي” ولا فرق بينه وبين الميليشيات الشيعية.
أما “الحشد الشعبي”، المؤلف من فصائل شيعية متطرفة، فمن المقرر مشاركته بالمعركة، إلا أنها لن تدخل مدينة الموصل.
ويخشى أن تُكرر هذه المليشيات المجازر التي ارتكبتها، في المناطق السنية التي دخلتها في وقت سابق، ما يدفع سكان الموصل، لدعم تنظيم “داعش” لا حبا به بل خشية من المليشيات الشيعية.
يتركز هدف إدارة الإقليم الكردي، بالسيطرة على المناطق التي تقطنها الأقليات شرقي الموصل، والسيطرة على منطقة سنجار، التي تتشارك السيطرة عليها مع “بي كا كا”، ويبدو أنَّ الإقليم الكردي يعد الأقرب لتحقيق أهدافه من معركة الموصل، بالاقتراب خطوة من حدوده النهائية.
وبعد طرد داعش من الموصل، ستجد إدارة الإقليم الكردي، الفرصة مواتية للتخلص من مسلحي، بي كا كا، الموجوديم في الإقليم، دون أن تدخل معهم في صدام مباشر.
القوات المحلية المدربة من قبل الولايات المتحدة وتركيا، على دخول الموصل، ينقصها العدد، والحماس والقدرات، أما مسلحو بي كا كا والمسلحون اليزيديون، فيتحركون وفق إملاءات إيران.
وفي هذا السياق حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليزيديين من ذلك قبيل انطلاق معركة الموصل.
أما القوى الخارجية، التي تلعب دوراً في معركة الموصل، في المرتبة الأولى فهي أمريكا وتركيا وإيران، وستكون الغارات الأمريكية العامل الأبرز في تحديد نتائج معركة الموصل.
وستسعى واشنطن لتمكين الجيش العراقي والقوات التي دربتها من السيطرة على مركز المدينة، من أجل إقصاء إيران المتمثلة بميليشياتها الشيعية، وتركيا.
وتعي واشنطن مدى صعوبة الأمر في الموصل بعد طرد “داعش”، ومن أجل هذا ستلعب في بداية العملية دورا ثانوياً، ومع مرور الوقت ستعزز دورها أكثر وأكثر.
من الممكن أن يكون لإيران، التي تضع مسافات بينها وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني، هدف فتح طريق لها نحو سوريا من خلال دعم منظمة “بي كا كا” الإرهابية، والقوات اليزيدية، وأن يكون لها موطئ قدم في مدينة تلعفر (شمال).
وكما هو معلوم لدى الجميع فإن الميليشيات، التي تدعهما إيران، لديها رغبة في دخول تلعفر، ومن الممكن ربط تسليط أردوغان الضوء على قضية تلعفر بالهدف السابق.
وبالنظر إلى التوازنات العسكرية، قد تبدو تركيا اللاعب الذي يقف في أصعب موقع، ومع ذلك فيمكن لجغرافية وهوية الموصل أن تبرز دور تركيا على المدى الطويل.
الغاية الأسياسية لتركيا هي الحيولة دون دخول الميليشيات الشيعية إلى الموصل، خشية زرع الأخيرة بذور حرب جديدة في حال دخولها المدينة.
والأهم من ذلك منع “بي كا كا” من اتخاذ موقع عسكري لها في الموصل، ومن ثم وضع حد لمساعي الأخيرة في تشكيل مركز قوة لها في سنجار على غرار سوريا.
** من الممكن أن تقسّم الموصل
“بي كا كا/ ي ب ك” تهدف إلى تشكيل كيان يتسم بطابع دولة تمتد من سنجار (في العراق) حتى منطقة عفرين (سوريا)، ولهذا تبدي تركيا اهتمامًا كبيرًا بالموصل من أجل منع “بي كا كا” من الاستيلاء على سنجار.
وفي هذا الخصوص، يمكن القول إن تركيا والإقليم الكردي في العراق تتبنيان ذات الهدف.
فتركيا دعمت القوات المحلية في الموصل من أجل تحقيق استقرار دائم فيها ما بعد مرحلة “داعش”، حيث أنها دربت العرب والتركمان ومقاتلين من الفئات الأقلية من سكان الموصل في معسكر بعشيقة.
ومع ذلك فإن قوات “الحشد الوطني” تعاني بعض المشكلات المتمثلة بالعدد القليل، والقدرة والدافع.
مستقبل الموصل لا يبدو واعدًا ومشرقًا من ناحية استقرارها ما بعد “داعش”، خصوصًا تحت وطأة مشاركة هذا الكم الكبير من الأطراف التي تختلف فيما بينها بالأفكار وبالأهداف.
وبالمحصلة فإن احتمال تقسيم الموصل وارد جدًا في ظل إبداء كل طرف مشارك بعملية التحرير اهتماما بمنطقة معينة، وليس ببعيد أن تنشأ معارك بين تلك الأطراف بعد هذه المرحلة.
جدير بالذكر أن الغاية من حصار الموصل من الجنوب والشمال والشرق وترك الجهة الغربية مفتوحة دون حصار، هو انسحاب عناصر “داعش” نحو سوريا، ويمكن تفسير ذلك بأن المعركة الكبرى مع التنظيم ستكون في مدينة الرقة.
**نجاح عملية “درع الفرات”
مدينة الرقة يمكن أن تكون حلبة “لي ذارع” بين الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا ما بعد تحريرها من “داعش”.
فالويالات المتحدة تسعى لتثبيت أقدامها في المدينة، من خلال استعمال قوات سوريا الديمقراطية المنضوية تحت راية تنظيم “ب ي د” الذراع السوري لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية.
وحظوظ الولايات المتحدة في إقامة مخططاتها في الرقة، تبدو قليلة، دون تعاونها – ولو بشكل جزئي – مع العرب السنة في المدنية وذلك حتى إن لم تكن تثق بهم كثيرًا.
فالرقة، كما هو معلوم مثل الموصل، أي أن العرب السنة يشكلون فيها الأغلبية القاهرة، ومحاولة تثبيت أركانها في المدينة أمر صعب حتى وإن تعاونت مع “ي ب ك” الجناح المسلح لـ “ب ي د”، وحدها، طبعًا وهي ما تفضله واشنطن.
كما أن الولايات المتحدة تشكك في دور تركيا، حتى اليوم، غير أن النجاح الذي ستحققه أنقرة في عملية درع الفرات من شأنه أن يجبر واشنطن على تغيير وجهة نظرها.
** خطة الولايات المتحدة في الرقة
الخيار الأول لتركيا هو سعيها لتحقيق انسجام الولايات المتحدة مع الوضع الجديد في سوريا (درع الفرات)، ومن ثم إقناعها بمشاركتها في عملية الرقة.
غير أن هذا الوضع سيعزز موقع تركيا، شرقي نهر الفرات، وهذا سيوّلد قلقًا لدى واشنطن على مواقع نفوذها في المنطقة، التي ما تزال تهيئ لها أرضية من خلال دعمها لقوات
“ي ب ك”.
هذا السبب سيدفع الولايات المتحدة إلى دمج مزيد من العرب في الرقة في صفوف “ي ب ك” بغية استخدامهم في تحرير المدينة.
وعدم مشاركة تركيا في عملية الرقة، في حال شاركت فيها “ي ب ك”، أمر لا يخفى للجميع، ومع هذا لا يعني أن تركيا ستبقى خارج التوازنات.
وأمام هذا الوضع، فإن الاحتمال الأول لأنقرة سيكون البحث عن نفوذ لها في المنطقة من خلال معارضي وعشائر الرقة العربية التي تتواصل معها تركيا.
وقد تكون الرقة لقمة أكبر من أن تهضمها “ي ب ك”، ولذلك يمكن لتركيا أن تنتظر لحين تشكل ظروف يحتاجون فيها إليها.
والاحتمال الضعيف هو اتساع رقعة “درع الفرات” وامتدادها شرقي نهر الفرات من خلال السير نحو المناطق التي يسيطر عليها “داعش”، أو دخول الجيش التركي إلى مدينة تل أبيض (شمالي الرقة على الحدود التركية) ذات الأغلبية العربية.
وفي هذا الحال سيكون لتركيا دور مؤثر شرقي نهر الفرات ويصبح من الصعب إقصاؤها من عملية تحرير الرقة، غير أنه ليس من المنطق أن تلعب تركيا دورا رئيسيا في الرقة كما تلعبه في عمليات درع الفرات.
يمكن لعملية تحرير الموصل، التي قُتل فيها جنود كثيرون للجيش العراقي في اليوم الأول لانطلاق العملية، أن توحي لنا بمدى الخسائر البشرية المحتملة في عملية الرقة.
ولا شك أن آخر الأطراف التي يمكن أن تلعب دورا في السيطرة على الرقة هما روسيا وحليفها النظام.
لن يكون لـ “داعش” موطئ قدم بعد تحرير الرقة، لذا فالعملية ستكون بالنسبة له مسألة حياة أو موت، سيما وأن التنظيم سحب معظم مقاتليه الأجانب المعروفين بالقتال الشرس إلى المدينة.
أما سؤال عما إذا كانت تركيا ستتعاون أو تنسق مع روسيا في عملية الرقة، خصوصًا في ظل ما تعيشه علاقات البلدين من ازدهار كبير، فالزمن هو من سيعلمنا بذلك.
وطن إف إم/ اسطنبول