حلبمقالات

عمر قدور – خسرنا، لم نخسر…

تدمير حلب بالقصف الروسي لن يكون سوى المرحلة الأولى من تكرار مسلسل غروزني، بعدما فشل فيه بشار وأتى مجرم غروزني الأصيل. من المرجح أن تكون إدلب المحطة التالية، وصولاً إلى ما تبقى من غوطة دمشق خارج سيطرة الاحتلال الثلاثي؛ الإيراني والروسي والأسدي. المهلة الزمنية لهذا المخطط معروفة، إذ تمتد قرابة أربعة أشهر حتى يدخل الساكن الجديد إلى البيت الأبيض، وسيتم استغلالها بكل وحشية وباستخدام كافة الأسلحة المحرمة دولياً.

هذا السيناريو لم يكن مفاجئاً على أية حال، ولا ينفع لاصطناع المفاجأة ذلك الإنشاء السخيف على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن، ولا التصرف بصبيانية والانسحاب أثناء كلمة مندوب النظام، النظام الذي لم يُحرم أصلاً من شرعية التواجد في هيئة يُفترض بها أن تصون السلم الدولي.

على الضد من الضجيج المبتذل والمفتعل، ها هو المخطط يسير كما يشاء منفّذوه، وكما يشاء أيضاً أولئك الذين حرموا السوريين من وسائل الدفاع عن أنفسهم. لذا ينبغي لمن خدعوا أنفسهم مراراً بوهم حدوث تغير دراماتيكي عاجل الإقلاع عن أوهامهم، وينبغي لمن خدعوا أنفسهم بوهم وجود حل سياسي الإقلاع عن السطحية والإنصات إلى مثلث الاحتلال وهو يتنصل في مجلس الأمن من الحل.

خسرنا، نعم خسرنا ولم يربح خصوم لنا، وينبغي ألا يربحوا حتى إذا استعادوا السيطرة على كل شبر من البلاد. الاحتلال يجب أن يبقى احتلالاً، وألا يحظى للحظة بشرعية المنتصر. لذا، يستوي هنا عدم الاعتراف بالخسارة والاستسلام، فعدم الاعتراف يعني عدم التراجع عن كل الأخطاء التي أدت إلى الخسارة، والاستسلام يعني أيضاً اليأس من القدرة على اتباع أساليب جديدة ملائمة للواقع الجديد. في حربنا هذه لم يكن ليوجد منذ البداية منتصر وخاسر، إذا أخذنا البعد الداخلي لها، فالخاسرون من الطرفين سوريون، وما دُمّر كان يُفترض أنه بلد الجميع.

حتى لو افترضنا سقوط النظام فلن يكون إلا ثمناً بخساً مقابل هول التضحيات، أما بقاؤه تحت وهم الانتصار فلا يعدو كونه تعامياً عن الواقع، تقاسمه البلد مع محتلين آخرين يعني أنه لن يحكم ثانية، وهذا هو الرهان الذي ينبغي أن يزداد صعوبة، في حال نجح مخطط غروزني. لقد اتضح منذ زمن طويل وجود قرار أمريكي بعدم تكرار السيناريو الليبي، ثمة كذب يتعلق بالتهرب من السيناريو العراقي الذي لم يُطالَب به، ومع التطورات الأخيرة يتضح أن السيناريو اليمني رغم تهافته لن يُعتمد في سوريا. ترجمة ذلك على أرض الواقع تعني إفشال تجربة المناطق المحررة والقدرة على طي صفحتها بقرار دولي، بعد تركها مطولاً تحت رحمة طيران الأسد ومن ثم الشريك الروسي.

أمام هذا الواقع، من الضروري التفكير في احتمالات أخرى للمقاومة، وتحديداً في احتمالات تكون أقل ارتهاناً للقوى الخارجية وأجنداتها. فشلت تجربة المناطق المحررة على ثلاثة مستويات، فكافة الفصائل المسلحة عجزت عن توفير الحماية للمدنيين بسبب افتقارها إلى مضادات الطيران، وعجزت أيضاً عن جعلها منصة للتقدم بسبب وجود فيتو دولي على تقدمها في أفضل أوقات سيطرتها، وبين العاملين السابقين فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم نموذج بديل عن الإدارة.

بالطبع ثمة كلام كثير أيضاً عن سلوك أمراء الحرب في بعض المناطق، وأيضاً عن مشاريع القسر الإسلامية في مناطق أخرى. من هذا الفشل تحديداً يلزم استنباط الاحتمالات الأفضل، إذ ينبغي أولاً الإعلاء من قيمة حيوات المدنيين، بعدما ثبت عدم اكتراث العالم بهم، وبعدما ثبت أيضاً أن تضحياتهم لم تؤدِّ إلى أدنى تغيير في النهج الدولي، وينبغي تالياً البحث عن السبل التي توقع أذى أكبر في النظام مع تجنيب المدنيين تبعاتها، ومع تحييد الخارج عن التحكم بها. هذه الاحتمالات ستضمن أيضاً عدم رضوخ المدنيين لأجندات أي جهة أو أية إمارة حرب، والعودة إلى المعركة بوصفها فقط معركة إسقاط النظام ليقرر السوريون البديل المناسب لهم. الرهان عسير لكنه ليس مستحيلاً، صعوبته أقل من الصعوبات التي سيواجهها النظام لاستعادة حكمه. وإذا كان النظام استطاع تأجيل الاستحقاقات المترتبة، تحت شعار معركته الحالية، فهو سيكون في مواجهتها في حال استعاد السيطرة.

عدم الدخول معه في تسوية مجحفة لا يُعدّ أمراً أخلاقياً فحسب، بل هو في صميم السياسة من حيث عدم مشاركة النظام في تحمل آثار جرائمه على مستوى البلد ككل. ضمن التسوية المعروضة الآن، تقتضي الحصافة ترك النظام ليغرق في استحقاقات انتصاره المزعوم، وإثبات عجزه على كافة المستويات، بما فيها المستوى الأمني الذي قد يبقى هدفاً مشروعاً لعمليات نوعية. فضلاً عن ذلك، سيكون النظام في هذا الحالة مكشوفاً أكثر من قبل، فالقسمة الحالية بين مناطق السيطرة وفرت أماناً لشبيحة النظام ومخابراته في أماكن سيطرتهم، بخلاف الوضع الذي تُمحى فيه حدود السيطرة ويصبح النظام معرضاً للاستهداف في كافة المناطق. ما يسوّقه مثلث الاحتلال مصحوباً بالعنجهية هو نوع من الحرب النفسية التي لا تتوخى الانتصار، بقدر ما تتوخى الاستسلام المطلق والإذعان التام، هذا ما لا ينبغي تحقيقه.

الباقي يحتاج شيئاً من الصبر والتصميم على جعل قوى الاحتلال جميعاً تغرق في ما حولته إلى ركام، وأيضاً التفرج على وحوش الشبيحة وهي تأكل معسكر الموالاة بعد الانتهاء من نهب المناطق الثائرة، لا من منطق الشماتة وإنما ليعرف الموالون أي نصر وُعِدوا به. من هذه الشقوق جميعاً، وعبر عمل منظم، يمكن قلب المعادلة على أولئك المنتشين اليوم بالمحرقة السورية. مرة أخرى، قد لا نجد سنداً دولياً، وينبغي عدم المراهنة عليه، لكن أيضاً يصح الرهان على أن القوى الدولية لن تتفرغ إلى ما لانهاية لحراسة نظام ساقط.

المصدر : المدن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى