بعدما يقارب ست سنوات من الثورة السورية؛ اهتزت فيها الإنسانية، وتأرجحت القِيَم، وشُكِّك بالثوابت، وتعرَّت كثيرٌ من الكيانات، واكتشف الشباب ذاتهم واختاروا طريقهم، لا يزال أَتباعُ كثيرٍ ممَّا يسمى مؤسساتٍ دينيةً، وكلياتٍ ومعاهدَ شرعيةً تنتشر في سوريا عامة، ودمشق على وجه الخصوص؛ يعيشون في مَداجِنهم بعيدًا عن الواقع، متوهِّمين أنَّ الضوء المسلَّطَ من أصحاب المداجن هو النور المبين الذي لا يشقى المستضيء به، ولا يَضِل المهتدي بهداه!
لقد كشفت الثورات كثيرًا من زيفنا المكنون، وأسقطت ورقةَ التوت عن أجسامنا المكتنزة بالقبح، وأزالت الغشاوات عن الأبصار والبصائر، وأوضحت لنا حجم الوهم الذي كنا غارقينَ فيه في المجالات كافَّة، بما فيها المجال الديني والشرعي الذي كان يَتوسَّم فيه المنعَتِقون مِن قَيْد الطغيان خيرًا، وكانوا يرتجون أن تكون المؤسساتُ التعليميَّةُ الشرعية مناراتٍ يتفجَّر منها النور، وتتوالد منها إرادةُ الحرية، لنكتشف أننا كنا نرتع واهمين! وأن كثيرًا ممَّا سُمِّيَ مؤسساتِ تعليم ديني ما هي إلا مَداجِنُ ..
المؤسسات/المعاهد الشرعية تقوم في تعاطيها مع أتباعها على قاعدة الشيخ والمريد، المريد الذي يُسلِم عقله ونفسه وشخصيته لهذا الشيخ
مداجِنُ لم يتحرَّك بعدُ القائمون عليها في سبيل تغيير منهجية التربية المتبَعة؛ رغم توالُد الحاجات التي دفعت الجميع إلى الانعتاق من جمودهم؛ إذ تقوم هذه المؤسسات على تقديس الأفراد .. الأفراد الذين كلما زاد -ظنُّوا- علمُهم؛ زادت رُتبتُهم، وبالتالي زاد تألُّههم فضربوا حولهم الأسوار، فلا يصلهم إلا خاصَّةُ الخواص.
كما أنَّ هذه المؤسسات/المعاهد تقوم في تعاطيها مع أتباعها على قاعدة الشيخ والمريد، المريد الذي يُسلِم عقله ونفسه وشخصيته لهذا الشيخ، فيصنعها كيف يشاء، فيكون بين يديه كالميت بين يدي من يغسله!
ولا يغرنك دعواتهم لمريديهم بتشغيل عقولهم؛ فما المراد إلا تشغيلُها ضمن المجال المغناطيسي للشيخ الذي هو المؤسسة، والمؤسسة هو.
ممَّا أسهم في إنشاء جيل يتمتعُ بالجمودِ العقلي الذي يجعله مُسلِّمًا بكل فكرة دون إخضاعها لأي معالجة عقلية، ناهيك عن الكتب التي اختيرت للتدريس بطريقة ممنهجة مُوجِّهة للفكر باتجاه الموت المطلق، حتى إذا فكر أحدهم أن يعلن فكرته المخالفة لما يقرأ ويتلقَّى؛ خرج القذافي من أعماقهم هاتفًا: من أنتم؟!!
من أنت حتى تخالف كبار العلماء والمجتهدين، ولم يكتفِ هؤلاء بتشويه أجيالٍ بمعاهدهم التي جعلتنا عالةً على ديننا وأمَّتنا؛ فلا عقولَ خلّاقة، ولا حناجرَ لا تخشى في الله لومة لائم، ولا فقه للدين بما يحقق مقاصد الشّرع، ولا أدنى مقوِّمٍ يجعلنا مؤهَّلين حقًّا لتأدية الأمانة التي خُلقنا لتأديتها؛ إذ لم نتحملها كما سنَّها الله صِفوًا مِن لوثِ مَن كدَّرها.
وعلى الصعيد النفسي كانت هذه المعاهد كفيلةً بأن تخرِّجَ جيلًا مشوَّهًا نفسيًّا بسبب عوامل تربوية مغلوطة عن الدين والكون والحياة والواقع؛ ينشأ عليها الفرد بينهم، ويتخلَّقُ بها شيئًا فشيئًا عند ممارسته العمل الدَّعوي، فولَّدت هذه العوامل أجيالًا غير مؤهَّلةٍ للخوض في المجتمع والتقرُّب من الناس، كما تستلزم الحالة الدعوية أساسًا؛ وذلك لأنَّ البيئة الحاضنة مُنغلِقة على نفسها لا تقبل أن يقترب منها إلا الشبيه ..
الشبيه المطابق لها فقط، ناهيك عن الدوران في فَلَك قاعدة الخواص والعوام، والاعتقاد الجازم أنهم الخواص وغيرهم من الناس عوام، مما جعل تعامُلَهم مع الناس مبنيًّا على نظرية فوقية ظاهرة، زادت الشَّرْخ الحسي والمعنوي بين الناس من جهة، وروَّاد هذه المعاهد (دعاة المستقبل) من جهة أخرى.
وأمامَ امتحان الثورات الأكبر؛ سقطت رؤوسُ هذه المؤسسات؛ إذ لم يكن لها مواقف ثابتة وقوية؛ بل آثرت الفرارَ بجاهها الديني، والنأيَ بنفسها عن المواجهة الحقيقية، والاكتفاءَ بالتصريحات الخفيفة، بعيدًا عن أرض المعركة الأم.
ورغم أن انتقال كبار هذه الرؤوس إلى إسطنبول أتاح لهم فرصة ذهبية للتغيير والانطلاق في فضاء أرحب وميدان فيه من الحرية ما يمكِّنهم مِن تجاوُز الهوَّة التي صنعوها بمنهجيتهم القديمة الجديدة، وما يتيح لهم فتحَ صفحة بيضاء جديدة مع النفس ومع الشعب السوري بأسره في سورية وخارجها؛ غيرَ أنهم ما زالوا يُصِرُّون على تعميق الفجوة بينهم وبين شباب المسلمين التائه في هذه البلاد.
والغارق في البحث عن لُقمة العيش من بين أنياب التَّعب الذي يُكلل هذه المدينة؛ فأصَرُّوا على حمل مشاريعهم المعهدية والدعوية بالطريقة ذاتها التي كانت في دمشق، فبدؤوا ببناء مَداجِنهم في إسطنبول ليكملوا مسيراتهم الدعوية التربوية المغلوطة، مُستعينين بأتباعهم الذين لم يخرجوا عن الولاء، ومستثمرين شيئين مهمين في نسيج المجتمع التركي:
مذهبهم الفقهي (الحنفي) واتّجاههم الصوفي.
محاولين التمسُّك بالسلطة الدينية والبقاء في أبراجهم العاجية، تاركين كشف الغُمَّة لله دون سعي منهم!
لن يكون لكم صوتٌ ولا سلطة، ولن يَتْبَعَكم إلا كلُّ مُنخَنِقة وموقوذة ومُتردِّيَة ونطيحة، ولئن ظننتم بأنكم على شيء؛ فاستيقظوا قبل أن يَلفِظَكم الزمن، فلا تجدوا لكم مكانًا في المستقبل الذي لا ينتظر متأخِّرًا، ولا يُحابي أحدًا، وهو ليس مُريدًا لكم؛ يَغفِر لكم تخلُّفَكم عن ركبه، وستَجِدون أنفسكم يومًا ما من الدهر أصنامًا مهجورةً، تتلاعب بها رياح الإهمال؛ تجتَرُّ الأمجاد القديمة، ولا يُصفِّق لها إلا بقية باقية مِن سُذَّجٍ لفَظَهم التاريخ؛ فأفيقوا خيرًا لكم ولنا!
المصدر : مدونات الجزيرة