الحديث اليوم في كل مجالس السوريين عن مصير إدلب، وتدور التكهنات ما بين منكر للواقع إنكار عدمي لم يعي بعد إلى أين انتهت الأمور، وبين آخر يدور في فلك الإرهابيين ما زال يزاود على الجميع وينعت الأحرار بأقذع الألفاظ ويحمل الشعب مسؤولية عدم مساندتهم للإرهابيين ويطالب عبثاً بجيش ينخرط في صفوفه كل المقاتلين بما فيهم الإرهابيون الذين يرفضون أصلاً هذا المطلب بحجة صفاء العقيدة والراية وما إلى ذلك من تخرصاتهم، وجزء أخير مازال يعلق الأمر على الموقف التركي وهؤلاء لم يستطيعوا بعد فهم المحاكمة العقلية التركية لمجريات الأمور في سوريا.
بداية أريد أن أذهب للنتيجة قبل أن أخوض في تفاصيل لماذا سيكون ذلك، والنتيجة هي نعم سيرفع علم النظام في إدلب قريباً وبرعاية تركية روسية أما كيف سيكون ذلك ولماذا فهذه مهمة من يجيد قراءة الأحداث ليس عبر وسائل الإعلام بل عبر تحليل السياق العام لتلك الأحداث والحقائق والمعطيات بعيداً عن التأثيرات الإعلامية والعاطفية والرغبوية التي غالباً ما تؤثر على النتائج.
وفي استعراضنا للأحداث فقد بدأ التدخل الروسي المباشر في سوريا عام 2015 بعد أن أيقنت روسيا أن إيران أدارت ظهرها للشرق ووقعت مع الغرب ما عرف بالإتفاق النووي الإيراني، وبدأت إيران بحصد نتائج ذلك إذ بدأت تنهال عليها مليارات الدولارات من أموالها المجمدة منذ عودة الخميني لطهران عام 1979 وصدامه مع الغرب، والمكتسبات الأخرى التي حصلت عليها (من أمريكا تحديدأً) والتي كشف عنها “بن رودس” الموظف السابق في البيت الأبيض في إدارة “أوباما” في كتابه الذي نشر مؤخراً، تلك كانت بالنسبة إلى روسيا خطوة غير متوقعة وهي التي كانت لا تمانع بأن تطلق يد إيران بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد إسباغها عليها صفة “الشريك الإسلامي” في التحالف الأوراسي الذي بدأ يتشكل في وسط أسيا، وسبب إختيار روسيا لإيران يرجع لعدة أسباب أهمها أنها غير تابعة للغرب في قراراتها عدا عن التاريخ الحضاري الذي تحمله والحلم بعودته والطموح للتمدد، وأخيراً أن النظام مركزي قوي متضمن لآلية انتخاب حتى لو كانت وهمية إلا أنها تضفي على النظام ككل شرعية مغلفة لأن الأنظمة الدكتاتورية “الاستفتائية” انتهت ولم تعد ترضي الأجيال المعاصرة التي ترى تقدم النظم الديمقراطية خصوصاً في مجال الاقتصاد، كل تلك الأوصاف لا تكاد تنطبق إلا على إيران في المنطقة، تغيرت خطط روسيا عندما وقعت إيران الإتفاق مع الغرب، فإيران باتت في الحضن الغربي ولم تعد تختلف عن تركيا في شيء بالنسبة لروسيا، بل إن تركيا التي لها نفوذ في منطقة أسيا الوسطى واقتصاد قوي أهم من إيران فكان أن حصل التحول وتمت دعوة أردوغان لافتتاح مسجد موسكو الكبير بما يشكل اعترافاً ضمنياً بقيادة تركيا للعالم الإسلامي وخلع صفة “الشريك الإسلامي” من إيران ومنحه لتركيا.
بعد ذلك حاولت روسيا فتح قنوات اتصال مع المعارضة بكل أجنحتها لكنها لم تستطع أن تجد شريكاً لها يمكنها الاعتماد عليه، فهي تصنف معظم المعارضة بأنهم عملاء للغرب خصوصاً أن المعارضة لم تكن تمتلك الوعي الكافي بموقع سوريا الجيوسياسي ناهيك عن امتلاكها لرؤية سياسية مستقبلية لسوريا، فكل ما يهم روسيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لم تستطع المعارضة فهمه حتى تقدم حلولاً للجانب الروسي لكي يعتمدها كشريك إلى جانب النظام بل اكتفت بمطلب المطالبة برحيل بشار دون تقديم أي تصور أو آلية يمكن مناقشتها مع الروس.
انتقلت روسيا إلى فتح قنوات تواصل مع الفصائل والتي كانت لها كلمة الفصل على الأرض فهي تمسك بمساحات لا بأس بها من الجغرافية السورية، وتم افتتاح مسار أستانة، من خلال هذا المسار اكتشفت روسيا أمر في غاية الخطورة وهو أن هؤلاء لا يمتلكون الخبرة الكافية للدخول بمناقشات لإيجاد حل شامل لكل سوريا، فكل فصيل مهتم بحل المشاكل التي تعنيه ولا أحد يتكلم عن سوريا كدولة موحدة، ذلك سهل على روسيا تجزأة الحلول فكانت تجترح حلولاً لكل منطقة على حدة بناء على موقف المفاوض من جهة الفصائل، الأمر الآخر الذي استغلته روسيا هو أن هؤلاء لا يملكون موقفاً موحداً من الإرهاب، فبعض الفصائل كانت لم تحسم أمرها بعد في محاربة القاعدة في سوريا، وكانت هذه الورقة التي أضعفت حلفاء الثورة فكلما كانت المناقشات توشك على التوقف كانت روسيا ترفع هذه الورقة في وجه تركيا تحديداً، طالبة منها الفصل بين قوات الفصائل المسلحة التي تصنف معتدلة وتلك الإرهابية وهو ما عجزت عنه تركيا لتداخل مناطق النفوذ بشكل يستحيل فصلها وهذه كانت خطة القاعدة في سوريا فهي لم تحتم بالمدنيين فقط بل احتمت أيضاً بالفصائل المعتدلة والتي كانت تتركها فقط لكي تحتمي فيها من قصف قد يطالها إلى جانب القصف على داعش.
كانت روسيا بعد كل عجز من قبل حلفاء الثورة للفصل بين الإرهاب والمعارضة تبدأ بما تسميه المهمة القذرة التي لا يريد أحد القيام بها، تلك المهمة المتمثلة بتنظيف المنطقة المستهدفة من كلا الفريقين الفصائل والقاعدة معاً، ولم يكن يتم ذلك إلا بعد أن تصل تركيا لحالة اليأس في إقناع الفصائل بإخراج مقاتلي القاعدة من المنطقة، وقد وجد الروس هذه الخطة مجدية فهي عندما تستعيد منطقة تجير هذا النصر لصالح قوات النظام مباشرة، والذي بدأ يستعيد الثقة ويشعر بأنه قادر على الانتصار عسكرياً، وانعكس ذلك بشكل مأساوي على مسار جينيف الذي شل تماماً وكاد يتوقف.
بعد قضم معظم مناطق سيطرة الفصائل وسط حالة من الصمت لدى حلفاء الثورة مما يجري ومباركتهم في بعض الأحيان برزت مشكلة أخرى لدى روسيا وهي أنها لا تمتلك موارد بشرية كافية لتأمين المناطق فكان لا بد من الاستعانة بقوات النظام، تلك القوات التي تبدأ بمهمتها المقدسة بعد استعادتها السيطرة على أي بلدة أو مدينة وهي التعفيش، هذا الأمر يخلف نتائج سيئة جداً على المدنيين ويؤثر أيضاً على الحركة الاقتصادية المعتلة أصلاً فيها، فكان لا بد من محاولة وقف ذلك بالقوة ببعض الأحيان وفي أحيان كثيرة كان يتم التغاضي عن تلك العمليات.
في معركة درعا الأخيرة كان الهدف فتح الطريق المؤدي إلى المعبر والوصول للمعبر، وقد تم إعلان النصر في المعركة رغم أن مساحات كبيرة ما زالت تحت سيطرة الفصائل المسلحة، بل إن بعض المناطق مازالت تحت سيطرة داعش والقاعدة، وذلك لأن الهدف تم إنجازه فالهدف هو رفع علم النظام على مركز المحافظة والسيطرة على المعبر الحدودي.
ينطبق نفس الأمر على إدلب اليوم فالهدف إعادة رفع علم النظام في إدلب مع السيطرة على المعبر مع تركيا بغض النظر كان ذلك بتواجد شرطة عسكرية روسية أم قوات مشتركة تركية روسية، لأن هذا الأمر تحديداً منوط بالمفاوض من جهة الفصائل، وفي حالة إدلب لا أعتقد أن تركيا ستكون بعيدة عن تلك المفاوضات، وستدفع بأن تكون الشرطة العسكرية الروسية هي التي تدير الأمور مع استبعاد مناطق واسعة في المحافظة من المواجهة تكون جيوباً في أطراف لا تؤثر على منظر عودة الحياة إلى طبيعتها مستقبلاً.
لاحقاً وبعد أن يحصل هذا والذي لا أتوقع شخصياً حدوثه في القريب العاجل ستتم دعوة اللاجئين للعودة وستعمل روسيا على استقطاب التجار لإعادة إنعاش الاقتصاد وتشكيل مجالس محلية من الأهالي، ثم التمهيد لانتخابات برلمانية ورئاسية في نهاية المطاف، هذه هي الاستراتيجية الروسية اليوم والتي لا تعترض عليها تركيا، فالتهدئة مطلب جميع الأطراف بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعه المدنيون الذين عادوا مرة أخرى تحت رحمة النظام، وهنا ستحاول روسيا الحد من عمليات التعفيش في تلك المناطق قدر الإمكان.
في المستقبل سنجد أن سوريا تحت نفوذ ثلاثة دول بشكل مباشر وهي تركيا وروسيا وأمريكا التي تميل إلى الانسحاب من سوريا ولكنها باقية بضغط من اللوبي الإسرائيلي والعربي في واشنطن، لكنها في نهاية المطاف ستنسحب منها تاركة ورائها الأكراد لمصيرهم، كما أن الميليشيات الإيرانية سينسحب جزء منها وسيختبئ الجزء الآخر بين صفوف النظام بالتآمر معه فهو لن يسلم كل أوراقه للروس كما لم يسلمها للإيرانيين من قبل.
في ظل هذا المشهد يبقى لدى القوى الثورية خيار النضال السياسي الحقيقي والذي ينبغي أن يملأ الفراغ الحاصل اليوم، تماماً كما حصل بعد فشل الثورة السورية ضد فرنسا عسكرياً وتشكيل أحزاب وكتل سياسية من نخب ناضجة وطنياً وثقافياً قادرة على العمل في البيئة السياسية الحالية من خلال التنسيق مع القوى الفاعلة على الساحة السورية وأهمها طرفا المعادلة تركيا وروسيا لإعادة ملء المناطق التي خرج منها الشعب بعد إنشاء شرطة محلية منها لضبط الأمن وإعلانها مناطق تحت الحماية التركية الروسية وإعادة الحياة فيها إلى طبيعتها، ثم تشكيل مجالس محلية من تلك المناطق ثم دستور جديد وانتخابات حرة تحت رعاية الأمم المتحدة، كل ذلك يعني عملياً أن النظام السوري الذي كان قائماً قبل عام 2011 لن يعود لحكم سوريا مرة أخرى وأن المرحلة الانتقالية التي طال انتظارها منوطة بما سيحصل في إدلب، وأن رفع علم النظام في إدلب لا يعني الهزيمة بل يعني ولادة مرحلة جديدة لسوريا حرة بدون إرهابيين وبدون بشار.
الكاتب: عبد الرحمن جليلاتي