حشدت جبهة «فتح الشام» («النصرة» سابقاً) وحلفاؤها قوات كثيفة لفك طوق الجيش السوري وحلفائه المضروب على الأحياء الشرقية المحتلة في حلب. مرشد «الجهاديين» عبد الله المحيسني ومناصروه أطلقوا على المعركة اسم «ملحمة حلب». اعتبروها موقعة فاصلة. كذلك اعتبرها حلفاء الجيش السوري المنخرطون بفض هجمات «الجهاديين» المتعاقبة، والمؤمنون بأن المعركة مصيرية، وستعيد رسم خريطة المنطقة برمتها . هل بات الحسم في حلب وشيكاً ؟
ليس بهذه السرعة. جميع المؤشرات تشير إلى العكس. ذلك أن ما من تطور نوعي في مواقف أطراف الصراع أو في مجريات القتال على الأرض حدث أو أوحى بشيء من هذا القبيل. بالعكس ثمة ما يشير إلى أن الصراعات في المنطقة مديدة وأنها تتحوّل باطّراد إلى مشهد إقليمي لحرب باردة عالمية تؤثر فيها أو تتأثر بها دول وحكومات تمتد من الولايات المتحدة غرباً إلى الصين شرقاً مروراً ببريطانيا وفرنسا والمانيا، في أوروبا وتركيا وسوريا والعراق ولبنان والأردن وإسرائيل ومصر وصولاً إلى افغانستان وباكستان في آسيا.
الشواهد في هذا المجال كثيرة :
الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بثنائية راسخة : هزيمة «داعش» (تنظيم الدولة) بالتزامن مع «تغيير النظام» في دمشق. الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست قالها بصراحة منتقداً العسكريين الروس الذين «يولون جزءاً كبيراً من اهتمامهم ومواردهم ووقتهم وطاقتهم لدعم نظام الأسد». الرئيس الأمريكي باراك اوباما أكد ما قاله ارنست، بعد اجتماعه بأركان مجلس الأمن القومي والقادة العسكريين في وزارة الدفاع «البنتاغون»، مضيفاً بأنه قلق من تحركات روسيا في سوريا. اوباما لا يبدو مستعداً للتسليم بحسم الصراع في بلاد الشام قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية وتسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة في 20 كانون الاول/ديسمبر المقبل. إلى ذلك يشير الدعم العسكري والسياسي الأمريكي المتواصل لـ «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية إلى أن واشنطن ما زالت متمسكة بمخططها الرامي إلى إعطاء الكرد في شمال سوريا الشرقي، و ربما غيرهم في أجزاء أخرى من البلاد، حكماً ذاتياً الأمر الذي يتطلب استمرار الصراع وعدم حسمه في الوقت الحاضر على الأقل.
روسيا ما زالت متمسكة بثنائية معاكسة للولايات المتحدة: استئصال «داعش» وأقرانه من التنظيمات الإرهابية ودعم سوريا في حربها على الإرهاب واستثمار فترة تباطؤ المبادرة الأمريكية خلال الانتخابات الرئاسية لدعم الجيش السوري وحلفائه لتحقيق مكاسب ميدانية يصار إلى ترجمتها مكاسب سياسية إذا ما جرى استئناف مفاوضات الحل السياسي في جنيف. من الواضح أن دوافع موسكو إلى التمسك بثنائيتها المار ذكرها روسية بالدرجة الأولى : منع انتقال عدوى «داعش» إلى ملايين مواطنيها المسلمين في الداخل، والحؤول دون استخدام واشنطن للتنظيمات الإرهابية ضدها في الداخل كما في دول آسيا الوسطى ما يحدّ من طموحها إلى العودة قطباً دولياً بنفوذ عالمي مؤثر.
تركيا بعد الانقلاب الفاشل على رجب طيب اردوغان وانقلابه الشامل على جميع خصومه غيرُها قبلهما. أمور كثيرة سيتناولها التغيير في الداخل والخارج، لكن ليس بينها ما يشير إلى تغيير في موقفه من سوريا، رئيساً ونظاماً. قد يضطر بسبب انهماكه بإعادة ترتيب بيته الداخلي إلى التخفيف من دعمه للتنظيمات الإسلاموية المعادية لدمشق، لكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى مصالحة سياسية وايديولوجية مع سوريا . «ملحمة حلب» ما كانت لتندلع لولا دعمه الوازن لــ «جيش الفتح». مشاربه «الإخوانية» ما زالت تتحكم بممارساته السابقة للانقلاب عليه وانقلابه المضاد .
مع ذلك ثمة بين المراقبين مَن يؤمّل بحدوث تغيير ما في سياسته على هذا الصعيد بعد قمته الوشيكة مع فلاديمير بوتين في بطرسبرج. إسرائيل ترى مصلحتها في استمرار الصراع وصولاً إلى تجزئة سوريا. هي تدرك أن واشنطن ماضية في هذا السبيل . كانت حاولت الضغط على إدارة اوباما لمضاعفة مساعداتها العسكرية السنوية تعويضاً لها عن إقرار الاتفاق النووي مع ايران، لكنها عادت وسلّمت بما جرى تخصيصه لها، معلّلة النفس بأن تعويضها الأجدى لقاء إقرار الاتفاق النووي هو في التزام واشنطن مخططها الرامي إلى تجزئة سوريا. إيران ما زالت مثابرة على دعم سوريا بالاتفاق مع روسيا، وما زالت مراهنة على قدرة الجيش السوري وحلفائه على دحر التنظيمات الإرهابية. لعلها تراهن أيضا على تغيير مقبل في سياسة اردوغان إزاء سوريا بسبب خشيته من نجاح الكرد السوريين، المدعومين أمريكياً، من السيطرة على شمال سوريا من الحسكة في الشرق إلى عفرين في الغرب. ذلك من شأنه خدمة الكرد الثائرين على سلطة انقرة في جنوب تركيا الشرقي. إلى ذلك تخشى طهران من تحرك الكرد الإيرانيين في شمالها الغربي بدعٍ من أمريكا شأن أقرانهم السوريين. هذا الاحتمال يعزز التقارب بين طهران وانقرة وقد ينعكس ايجاباً على دمشق.
الصين تزداد نفوراً من الولايات المتحدة بسبب سياسة الأخيرة وممارساتها في بحر الصين. هي تشعر بأن واشنطن ممعنة في سياسة تطويقها و»الحجْر» عليها في الشرق الاقصى. ألمْ تبادر إلى زيادة قطع أسطولها في بحر الصين ؟ ألمْ تنشر المزيد من طائراتها المتطورة والبعيدة المدى في قاعدة «غوام» البحرية غير البعيدة عن شواطئها الجنوبية ؟ تخشى الصين من تداعيات مشاركة المزيد من مواطنيها المسلمين ذوي الأصول التركية المعروفين باسم «اغور» في الجيش التركستاني الذي يقاتل في سوريا تحت أمرة جبهة «النصرة» («فتح الشام»). هؤلاء سيعودون يوماً ما إلى بلادهم ويباشرون عمليات إرهابية ضد الحكومة والمواطنين.
يتحصّل من مجمل هذه المعطيات والتطورات أن العلاقات بين أمريكا وحلفائها الإقليميين من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما الإقليميين من جهة أخرى آخذة في التوتر الذي يجد متنفساً له في دول غرب آسيا، أي في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وأن الصراعات الدائرة في بلاد الشام وبلاد الرافدين هي أحد مشاهد الحرب «الباردة» ذات الفصول الساخنة والمتجهة، على ما يبدو، إلى ظواهر أكثر سخونة.
إزاء هذه الحال لا حسم سريعاً في حلب ومحيطها في الوقت الحاضر، ذلك أن الصراعات المديدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا أصبحت مرتبطة، في كثير أو قليل، بمستقبل العلاقات بين الدول الأقطاب وممارساتها في الحرب «الباردة» المتزايدة سخونتها وانعكاساتها على حلفائهم الإقليميين المشتبكين في صراعات مديدة دخلت سنتها السادسة.
المصدر : القدس العربي