قمة الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في بطرسبرغ الروسية اليوم، تبدو أكثر من مهمةٍ لعلاقات البلدين وقضايا المنطقة، إذ إنها الأولى بينهما، منذ توتر العلاقات بين بلديهما، عقب إسقاط تركيا مقاتلة حربية روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كما أنها الزيارة الأولى لأردوغان إلى الخارج، عقب الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو/ تموز الماضي. وأهمية القمة لا تنبع مما سبق فحسب، بل لأنها تأتي على وقع توتر العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي، وكذلك على وقع معركة حلب التي تتوقف عليها معادلات كثيرة مرتبطة بالأزمة السورية، ولعل أردوغان يلتقي بوتين وفي جعبته الكثير عن ملف معركة حلب، وتطوراتها الميدانية على الأرض.
ماذا يريد القيصر من السلطان؟ وماذا يريد السلطان من القيصر؟ بعيدا عن الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات الاقتصادية، حيث مشاريع النفط والتجارة والسياحة، وغيرها من المصالح الحيوية المشتركة، يريد بوتين من أردوغان تغيير سياسته تجاه الأزمة السورية، فيما يريد أردوغان الشيء نفسه من بوتين. ولكن كل طرف بالاتجاه الذي يريده، وهو يبدو غير ممكن في ظل الاختلاف الاستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة، فروسيا تتمسك ببقاء النظام السوري، فيما تركيا تريد إسقاطه. روسيا تريد من تركيا تغيير سياستها في القرم وأوكرانيا فيما ترى تركيا أنها تمارس السياسة انطلاقا من رؤيتها ومصالحها واستراتيجيتها، حيث يقف البلدان على بحر من العداء التاريخي، منذ الحروب المتتالية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، مرورا بمرحلة الحرب الباردة، ووصولا إلى الصدام في الأزمة السورية.
تأتي زيارة أردوغان إلى روسيا في وقتٍ حساس، لجهة العلاقات التركية – الأميركية التي توترت أكثر، بعد الانقلاب العسكري الفاشل، واتهامات تركيا واشنطن بدعم المتورطين فيه، ومطالبتها بتسليمها فتح الله غولن، بوصفه المسؤول عن المحاولة الانقلابية، كما أنها تأتي في ظل موجة الاتهامات المتبادلة بين المسؤولين الأتراك والأوروبيين، حيث وصل الأمر ببعض المسؤولين الغربيين إلى المطالبة بوقف مفاوضات العضوية مع تركيا، بل وإخراجها من الحلف الأطلسي، ولعل مثل هذا التطور السلبي في العلاقات التركية – الغربية يسيل لعاب بوتين، وأمله بزعزعة العلاقة الأطلسية بتركيا، إن لم نقل تفكيكها، طالما أن موسكو تعيش هاجس توسع الأطلسي شرقا في كل صباح.
للقيادة الروسية، وانطلاقا من مصالحها، موقف واضح من الأزمة السورية، لعل أهم معالمه رفض إسقاط النظام السوري، أو حتى إجباره على الرحيل، في مقابل التمسك بإيجاد حل سلمي عبر مرحلة انتقالية، من خلال حوار يفضي إلى مثل هذا الحل، حيث أعلنت مراراً اتفاق جنيف واحد أساساً يمكن الاعتماد عليه للحل، في حين أن القيادة التركية التي قطعت كل علاقاتها مع النظام السوري، وعلى الرغم من التحولات التي تشهدها سياستها الخارجية، بعد المصالحة مع إسرائيل وروسيا، تعمل لإسقاط النظام السوري.
تخشى روسيا التي تحارب في سورية دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية من البعد الإيديولوجي لتداعيات صعود الحركات الإسلامية المتشدّدة، ولا سيما في ظل وجود عشرات الملايين من المسلمين في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت، حتى وقت قريب، جزءاً من الأراضي الروسية. تنظر روسيا هذه بعين الخوف إلى تداعيات هذه السياسة على أمنها القومي، وهي، في مواجهة ذلك، تعمل بقوة، وعلى مختلف المستويات، لبقاء النار المشتعلة خارج أراضيها، وهي حجةٌ تدفع بوتين إلى الطلب من أردوغان اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات ضد هذه التنظيمات، باسم مكافحة الإرهاب. في المقابل، سيحاول أردوغان القول لبوتين إنه لا جدوى من دعم النظام السوري إلى ما لا نهاية، وإن ما جرى في حلب، أخيراً، قد يضع الدرس الأفغاني أمام الروس من جديد، لكن بوتين يدرك جيداً أن السعي التركي هذا يفتقر إلى الدعم الأميركي والأطلسي. وعليه، قد تبقى استجابة بوتين في حدود الاستماع، قبل أن يرفق ذلك بالطلب من أردوغان اتخاذ إجراءات على الحدود مع سورية، في سبيل الوصول إلى تفاهماتٍ في المرحلة المقبلة، في إطار البحث عن أدوار جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
في الوقع، قد لا تكون قمة بوتين – أردوغان في شقها السوري سوى لقاء تثبيت المواقف لا أكثر، فكما يبدو من التصريحات التركية أن أردوغان لا يستطيع التراجع عن مواقفه، بعد أن قطعت تركيا علاقاتها نهائياً مع النظام السوري، وجعلت من إسقاطه هدفاً لا محيد عنه، فيما يسعى بوتين إلى استثمار التوتر في العلاقات التركية – الغربية، من أجل مصالح اقتصادية وأمنية كبرى، تتجاوز الملف السوري، فمشروع الغاز الجنوبي الذي ينقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية يقوّي موقف موسكو، في مواجهة أوروبا التي تدعم كييف بقوة، كما إنه يجعل من أنقرة الجسر الأهم لنقل النفط إلى أوروبا، وليس كييف كما هو الآن، حيث الصراع العالمي على مد خطوط الطاقة إلى الدول الأطلسية، بشقيها الأوروبي والأميركي، وأبعد من الغاز والنفط ومفاعل أقويو النووي، تطمح روسيا إلى مزيدٍ من التقارب مع تركيا، على أمل دفعها إلى الانفكاك عن الغرب، ولو تدريجياً.
من الواضح أن دوافع التقارب الروسي – التركي باتت كثيرة، على الرغم من إرث الصدام واختلاف الاستراتيجيات إزاء قضايا عديدة.
المصدر : العربي الجديد