ثمّة إشارة ذكية في مقالة الصحافي البريطاني، ديفيد هيرست، في موقع “عربي 21” عن معركة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين في حلب، وتتمثّل في الدلالات السياسية والرمزية والاستراتيجية المترتبة على سقوط حلب، بالكامل، في يد النظام السوري وشركائه الإيرانيين، بفعل التدخل العسكري الروسي العنيف الذي يشبه، إلى درجةٍ كبيرةٍ، ما حدث في غروزني من “سياسة الأرض المحروقة”.
دلالات القضاء على المعارضة، إن نجح الأمر بالطبع، في حلب الشرقية، وإجراء هندسةٍ ديمغرافيةٍ فيها شبيهةٌ بما جرى في حمص وريف دمشق، وهجرة من تبقوا من “السوريين” (الأغلبية السنيّة) إلى مناطق أخرى، وربما إلى الخارج، ذلك يعني أنّ حاضرةً ومدينة تاريخية مهمة من المدن السنيّة العربية المشرقية استولت عليها إيران ومعها نظام بشار الأسد الذي أخذ صبغة طائفية بحتة.
لا أودّ (أنا) ولا أنتم أن نقرأ المشهد بهذه الطريقة، أي الطائفية، لكنّها القراءة التي ستسود، للأسف، لدى ملايين السنّة، وهي التي ستغذّي خطاب “داعش” وجبهة النصرة والتطرّف السني الذي أصبح “الرد الوحيد” على هذا النفوذ الإيراني والتحالف الجديد (موسكو- طهران)، مع الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، وغياب أي نظام إقليمي عربي فاعل، وتراجع الدور التركي بصورة ملحوظة.
مع السياسات الإيرانية الكارثية في المشرق التي تمزج الطائفية بالسياسة والنفوذ الإقليمي، فإنّ المشاعر التي ستسود هي التي تحدّثنا عنها سابقاً، وسيغلي الماء في القدر أكثر وأكثر، مع وجود استعداداتٍ كبيرة وتسريباتٍ معتبرة عن أنّ معركة الموصل وانتزاعها من يد داعش أصبحت على الأبواب، وتستعد قوات الحشد الشعبي، ذات الصبغة الطائفية، لتنفيذ المهمة، وللسيطرة عليها، كما حدث في الفلوجة والرمادي ومدن سنيّة أخرى.
تاريخياً، مدن العراق والشام هي الحواضر السنيّة الأكثر أهمية، من بغداد إلى دمشق، والموصل وحلب، فإذا وقعت جميعاً اليوم في قبضة الحكومات المرتبطة بالنفوذ الإيراني والروسي، وفي ظل حالة الطائفية المرعبة التي تجتاح المنطقة، فإنّ سقوط حلب سيكون بمثابة “نقطة تحوّل” ليس باتجاه انتصار النظام السوري وشركائه، والوصول إلى تحقيق حلم “سورية المفيدة” بالسيطرة على المدن السورية (دمشق، حلب، حمص وحماة) وترك البادية والصحراء للآخرين، بل ستكون منعطفاً نحو انفجار كارثي للصراع والطائفية ولتطريف المجتمع السني، على الأقل في العراق وسورية، مع نسبةٍ كبيرةٍ من الشباب العربي المنفعل بهذه التطورات، وبخيبة الأمل والإحباط من ضعف الدول العربية ومحدودية قدرتها على الردّ.
ليست القضية في “شرق حلب” بعدد المقاتلين المتبقين، ولا بحجم وجود جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) فيها، كما يزعم المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بل في أنّ سقوط هذه المنطقة التي صمدت، إلى الآن، في مواجهة آلةٍ عسكريةٍ إجرامية دموية، يعني رمزياً انفجار مشاعر عارمة محبطة وخيبات أمل كبيرة من المجتمع السني، وتعزيز الشعور بتهديد الهوية السنية في المنطقة العربية، وإذا ما انضمت الموصل إلى حلب لاحقاً، فإنّ الهزيمة العسكرية لـ “داعش” ستتحوّل إلى انتصار معنوي كبير لكل القوى المتشدّدة!
هل نبالغ في هذا التقدير لردود الفعل أو للنتائج المترتبة على هذه المقامرات الدولية والإقليمية في كل من سورية والعراق؟ لو كان البديل عن “داعش” أو حتى في حلب والمدن الأخرى هي أنظمة ديمقراطية، أو بالحدّ الأدنى وطنية لها درجة من الاستقلالية، فسيكون كل ما سبق بمثابة مبالغة وتهويل، وألقوا به في سلّة الإهمال. لكن، إن كان البديل، كما حدث في بغداد ودمشق والمدن الأخرى، وسيحدث، لاحقاً، إن تحقق في المدن المتبقية، هو نظام طائفي سافر، ترتفع فيها الرمزيات الطائفية، ويخضع لطهران، وتنضم المدن الجديدة السورية إلى العراقية، فإنّ ما يُسمى في الأدبيات الغربية “التمرّد السني” سيصبح “الخيار الرئيس” لنسبةٍ كبيرة من الشباب العربي!
المصدر : العربي الجديد