في ظل الاستهداف المتعمد للمستشفيات والمنشآت المدنية لم يعد حديث الروس عن مكافحة «الإرهابيين فقط» في حلب مقنعاً لغالب دول العالم وهو ما ظهر بوضوح في مناقشات مجلس الأمن الأخيرة.
التقارير المتواترة التي تتحدث عن استخدام كوكتيل من الأسلحة المحرمة، إضافة إلى الصور المباشرة اليومية للقصف والتدمير الوحشي، كل ذلك قد وضع المجتمع الدولي في حرج كبير، حيث بات من الواضح أن المدنيين هم المستهدف الأول، إما بغرض إخافتهم وكسر شوكة صمودهم، أو بغرض إقناعهم بالمغادرة من أجل إفراغ المدينة وتسهيل عملية إبدال طائفي مشبوهة.
بهذا لم تعد روسيا مجرد مساعد لبشار الأسد عبر ضربات انتقائية ومركزة كما كانت تعلن في أول الأمر، بل أضحت لاعباً رئيساً عبر تنفيذها سياسة أرضٍ محروقةٍ مروعة، وعبر استنزافها لموارد السكان المحدودة بتنسيق مع النظام وجماعاته الموالية على الأرض، والذين يحجبون بدورهم ما استطاعوا إليه سبيلاً من ماء أو غذاء أو دواء. إن دور روسيا ومشاركتها في عملية إبادة الشعب السوري بغالبيته السنية لا يفوقه إجراماً سوى الدور الإيراني الذي دفع بعشرات الآلاف من مقاتليه المهووسين وبأبناء الشيعة المغرر بهم من كل مكان في العالم من أجل التقرب إلى الله بالقتل والاغتصاب والتعذيب والتهجير القسري للمدنيين.
هذه العلاقة التعاونية على الإثم والعدوان تستحق وقفة ودراسة، وقد عرضت لها في مقال سابق بعنوان: «روسيا وإيران، جدل الواقع والتاريخ» ولا أريد أن أعيد هنا ما قلته هناك، بل أدلف من ذلك لحقيقة أخرى هي أن انتقاد الحلف الروسي الإيراني لا يعني الوقوع في حب وجهة النظر الأخرى التي يمثلها الغربيون، الذين يدعون الحرص على الشعب السوري. ذلك المعسكر الذي يمثله الرئيس أوباما بشخصيته المتلونة التي قالت مرة إن على بشار الأسد أن يرحل قبل أن يستدرك بالقول إن رحيلاً مفاجئاً للرجل قد يشكل فراغاً، وإنه من الضروري وجود فترة انتقالية ممتدة بشكل يكفي للحفاظ على «الدولة السورية».
الغربيون ليسوا على قلب رجل واحد فيما يتعلق بحل القضية السورية، فهناك المتطرفون المعادون بشكل هيستيري للإسلام والذين يعتبرون أن أي شيء هو أفضل من سيطرة إسلاميين على سوريا. أصحاب هذه النظرة يرون أن سيطرة المجموعات الإسلامية على تلك المنطقة قد يعني تمددها إلى بقية دول الشام، كما قد يعني إعلان الحرب على أوروبا التي لن تصمد طويلاً أمام الفتح الإسلامي الجديد. هذه الصورة التي لا تخلو من مبالغة عبر عنها كثيرون وبدوا مقتنعين بها كالسيناتور ريتشارد بلاك عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرجينيا، الذي يصف سوريا بمركز الثقل الذي إن سقط بيد الإسلاميين فإن ذلك سيعني سقوط أوروبا الحتمي. لكن بداخل الولايات المتحدة نفسها من يرى أن الخطر الحقيقي الداهم إنما هو خطر النظام، الذي بزواله سوف تزول مبررات تنظيم «الدولة» وغيره من الجماعات المتطرفة التي على الأرجح ستختفي أو تعود عن ممارساتها الفوضوية الحالية والتي لا تصب في الواقع إلا في مصلحة النظام الذي يتخذ من وجودها مبرراً للقمع والتدمير.
هذه الرؤية يشاركها مع أولئك معظم الثوار الذين يرون أن حل المشكلة يكمن في إزاحة بشار الأسد وهم قادرون بعد ذلك على تجفيف هذه الجماعات وملاحقتها بشكل أكثر موضوعية مما يفعل الروس أو الأمريكيون أو غيرهم من المتنافسين على التدخل بهذه الحجة في الأرض السورية.
لكن رؤية أولئك الثوار ليست مهمة ولا مؤثرة، وكذلك ما يقوله بعض المثقفين الغربيين عن ضرورة البدء بتنحية الأسد قبل كل شيء. كل ذلك لا وزن له ما لم يكن مقنعاً للقيادة الأمريكية التي أخذت سنوات من التردد ووقتاً أطول من اللازم لدراسة طريقة التعاطي مع الأزمة. وفي ذروة احتياج الجميع لمبادرة أمريكية حاسمة خرجت علينا تلك الإدارة باستراتيجية جديدة سمتها عدم التدخل في شؤون الشرق الأوسط، وكانت تلك حجة مقنعة نظرياً للاكتفاء بدور المتفرج ولإلقاء عبارات دبلوماسية فارغة من حين لآخر.
لكن ما فات على أولئك المنظرين هو أن عدم التدخل، في حالة القدرة، يعد تدخلاً، فالمتفرج على جريمة يستطيع منعها يعتبر مشاركاً، أو في أحسن الأحوال متستراً عليها. أما السوريون فهم لم يطالبوا الأمريكيين ولا غيرهم بالتدخل العسكري لصالحهم، بل تمحورت طلباتهم في التزود بمصدات طيران تمنع عنهم القذائف والبراميل المتفجرة، كما طالبوا بمنحهم بعض الأسلحة الدفاعية الخفيفة، أو في حالة العدم محاصرة التمويلات الدفاعية وتدفقات الأسلحة التي كانت تأتي للنظام بانسياب لا يعوقه شيء من قبل جهاته الداعمة. حتى هذا الطلب الأخير لم يقبل به أحد وأدخلنا المنظرون مرة أخرى في متاهة فلسفية حول السيادة والشرعية الدولية وهي حيلة دبلوماسية يستخدمها الأمريكيون حين يرغبون في تضييع الوقت، لأننا نذكر تماماً كيف كانوا يقفزون على كل ذلك حين يرغبون في توجيه سهامهم إلى هذا البلد أو ذاك!
شهد عام 2012 مقترحاً من مجلس الأمن القومي الأمريكي لتسليح المعارضة وآخر من المخابرات الأمريكية التي وضعت تصوراً لكيفية تنحية الأسد. كان ذلك هو عام الأمل بالنسبة للثوار ولدول المنطقة التي وصلتها رسائل توحي بجدية الأمريكيين في دعم الثورة مما يعني انتصارها الوشيك. لكن كل شيء قد تغير مع الخدمة الكبرى التي قدمها ما بات يعرف بتنظيم «الدولة» للتحالف الأسدي عبر أسلوبه الدعائي الذي أساء به للمسلمين عامة وللثورة السورية خاصة.
وجدت الإدارة الأمريكية بعد ذلك مسوغات كثيرة للتراجع عن دعم الثورة أهمها الخشية من مساعدة المتطرفين، ذلك بالطبع قبل أن تتدخل بقوة من أجل ضرب ما ستسميه بـ»معاقل الإرهاب». هذا الوضع الدولي السائل هو الذي شجّع بشار الأسد على استخدام السلاح الكيميائي وعلى التوسع في ابتداع طرق القتل والتنكيل بدون أن يحاسبه أحد من الذين غرقوا في متاهة فلسفية جديدة حول تعريف الإرهاب والمجموعات الإرهابية.
لكن، مرة أخرى، فإن هذا لم يكن سوى مجرد تحايل لتضييع الوقت ومنح النظام فرصة التمدد أكثر، فمن الواضح أن أولئك المستضعفين من الأطفال والنساء والعائلات لا يمكن أن يكونوا إرهابيين بغض النظر عن المعيار الذي نستخدمه. كل ذلك أدى إلى نتيجتين مؤسفتين، الأولى هي توحش تنظيم «الدولة» وإغراقه في الفوضوية في ظل مجتمع دولي يستفيد من تعاظمه لتصويره كشبح قادر على التمدد وعلى توجيه الضربات في أكثر من مكان، والثانية هي ظهور مشكلة الهجرة بتداعياتها المختلفة من الموت غرقاً إلى الوقوع ضحية شبكات الاتجار بالبشر والاستغلال.
إن الحديث بعد كل هذه السنوات عن معسكرين أحدهما يقف مع الشعب السوري وآخر مع النظام هو حديث خادع ومجافٍ للواقع. لنتذكر أن مقترح الأمم المتحدة لحل مأساة حلب الذي عبّر عنه دي ميستورا كان خروج الجماعات المسلحة الأقوى من المدينة من أجل إحراج روسيا التي لن تجد حينها ما تتذرع به لمواصلة حربها العبثية. حينها بدا دي ميستورا متواطئاً، وكذلك أممه المتحدة التي أعلنت عجزها عن إيقاف روسيا، فقد تجاهل القرار وجود المئات وربما الآلاف من الميليشيات الأجنبية التابعة للنظام ولحلفائه في الجوار وتناسى أنه ببقاء أولئك وتحييد عناصر المقاومة الأقوى في المنطقة، فإن هذا لن يقود سوى إلى مزيد من التنكيل بالمدنيين. نعلم اليوم أن أهم أسباب ما سمي خلال الأعوام الأخيرة بـ»الارتباك الأمريكي» في سوريا يرجع للتفاهمات التي جرت بين إيران والولايات المتحدة التي حرصت فيها إدارة أوباما على توقيع الاتفاق النووي مع شريكتها الجديدة بأي ثمن كان، ولو أدى ذلك إلى إطلاق يد الأخيرة فيما ترى أنه مناطق نفوذها.
أما علاقة الأمريكيين بالروس، فهي كذلك على النحو ذاته تحكمها المصالح والتقاطعات والتنافس الإقليمي وهو تنافس لم يمنع التنسيق الحربي جواً وأرضاً بين الطرفين، رغم ما يظهر من اقتتال لفظي بينهما. الواقع الذي يجب ألا نتعامى عنه هو أن رؤى الطرفين وأولوياتهما متشابهة. كيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم ومن تلك الحلقات الجهنمية للتواطؤ والخيانة وغدر القريب؟ إن الإجابة تكمن في العبارة المختصرة التي رددها المتظاهرون منذ أول يوم والتي تنفي كل تعويل على أمريكا أو روسيا أو غيرها من الدول التي تدعي بشكل أو بآخر صداقة الشعب السوري. عبارة تقول بإيمان: «ما لنا غيرك يا الله».
المصدر : القدس العربي