بدأت مشاركة مدينة حلب في الانتفاضة الشعبية السورية منذ نيسان (أبريل) 2011، خلال الأسابيع الأولى التي أعقبت تظاهرات درعا واللاذقية ودير الزور وحماة وحمص وريف دمشق.
وفي تموز (يوليو) 2012، تمكنت فصائل «الجيش السوري الحر» من تحرير نصف المدينة تقريباً، وبقي الكرّ والفرّ هو المبدأ الناظم؛ حتى نهاية 2013، حين شرع النظام في حملة البراميل المتفجرة. التطورات اللاحقة تضمنت اختلاط الأوراق، مع دخول وحدات «حزب الله»، وضباط «الحرس الثوري» الإيراني، والميليشيات شيعية المذهب إلى جانب النظام؛ في مواجهة مجموعات، متشرذمة ومتنافسة، من الجيش الحرّ والفصائل الإسلامية و«داعش» وميليشيات «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردية. وأمّا التطور البارز في ملفّ حلب، عسكرياً على الأقلّ، فقد كان التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) 2015، وشروع موسكو في حملة قصف جوي واسعة النطاق، أسفرت ـ بين نتائج أخرى ليست قليلة الأهمية ـ عن قطع طريق الإمداد الوحيد الذي يغذّي المعارضة المسلحة داخل المدينة.
وإلى جانب هزال البعد السياسي خلف هذا المشهد العسكري في حلب، من حيث حصة المدينة في مشاريع التفاوض والحلول والتسويات، كان العنصر الأكبر الغائب هو الوضع الإنساني لمئات الآلاف من المدنيين؛ المحاصرين، عملياً، بين فكّيْ كماشة، أياً كان ولاء المنطقة التي يقيمون فيها، تحت سلطة النظام أم المعارضة. ولقد حدث مراراً أنّ هؤلاء كانوا أولى ضحايا الصفقات التي أعقبت «انتصار» هذا الطرف أو ذاك، كما في وقائع قنص الأبرياء الذين صدّقوا وعود النظام من أنّ طريق الكاستيلو بات آمناً لخروجهم من المدينة، أو ما تذكره اليوم تقارير منظمات حقوقية دولية حول فقدان المئات من المواطنين في المناطق التي استردها النظام من المعارضة مؤخراً.
وإذا كان هذا المآل هو الوحيد المنتظَر من قوى النظام وحلفائه، حيث يشيع السلوك الفاشي وفلسفة التطهير المذهبي؛ فإنّ المآلات المقابلة، التي نجمت وتنجم عن صراعات الفصائل المسلحة بين بعضها البعض، وارتهان معظمها لحسابات إقليمية متقاطعة ومتغايرة، وفساد أو شلل مؤسسات «المعارضة الرسمية»… لم يكن أقلّ وطأة على المواطن الحلبي، الحائر بين اشتراطات الحياة اليومية، في المقاومة والصمود والحصار والمجاعة؛ وبين آلة إفناء وحشية لا تُبقي حجراً على حجر، من السماء والأرض على حدّ سواء.
وثمة، في قلب هذه الكماشة الحلبية، رهانات واستيهامات حول كسب المعركة الحالية لصالح النظام (أو بالأحرى: لصالح موسكو، أولاً!)، ليس في ساحة قتال حلب وحدها، بل على صعيد نجاح النظام في «حسم» كامل الحرب؛ وبالتالي إقفال السنوات الست من عمر الانتفاضة الشعبية، على نحو يعيد إنتاج النظام، ويعيد تأهيله. تُنسى، في غمرة هذه القراءة، الكسيحة حسيرة النظر، حقيقة كبرى أخذت تترسخ أكثر فأكثر كل يوم، وتشير إلى أنّ الشعب السوري لم يعد معنياً باستكمال الانتفاضة ضدّ نظام الاستبداد والفساد والفاشية، فحسب؛ بل بات مطالَباً بخوض حرب تحرير شعبية ضدّ استعمارات خارجية شتى، قوامها كلّ القوى الغريبة على أرض سوريا.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء حتى يدرك أنّ قاسم سليماني، وليس أياً من الجنرالات مجرمي حرب النظام، هو رئيس الأركان الفعلي في معركة حلب؛ وأنّ سيرغي لافروف هو وزير خارجية هذه المعركة، وليس أياً من ساسة النظام، بما في ذلك بشار الأسد نفسه؛ وأنّ رجب طيب أردوغان، وليس أياً من «أصدقاء الشعب السوري»، هو الإنكشاري الإقليمي الأقوى الذي يحمل في جيبه «بيضة القبان» بصدد الاتجار بمصير حلب… وأمّا آل الأسد، وتسعة أعشار شخوص النظام، فلم يعودوا أكثر من عملاء صغار، وبيادق مجندة، وأدوات مسيّرة، وظلال باهتة لا حول لها ولا طول.
هذا غيض من فيض ما تنطوي عليه الكماشة الحلبية، والأرجح أنّ ما خفي فيها سوف يكون أعظم، وأدهى!
المصدر : القدس العربي