حلبمقالات

القدس العربي – مذبحة حلب: الإخراج أمريكي والتنفيذ روسي ـ إيراني

يمكن اعتبار ما حصل في حلب أمس جريمة كاملة علنيّة وعلى رؤوس الأشهاد بل ومتّفق على تنفيذها بين أسياد الكون وعرّابي المصالح العليا فيه وصولاً إلى اللاعبين الصغار الذين ينفّذون المقتلة الآن ويقتلون ويحرقون البشر، وأتباعهم الصغار من الضباع الكاسرة التي تتناوش الجثث.

يمكننا، لو أردنا، أن نلقي باللائمة على أطفال درعا الذين انفعلوا بأحداث تونس ومصر عام 2011 فخربشوا فكرة سقوط النظام، وعلى الناس الذين ثاروا لكراماتهم المهيضة فانتفضوا وتلقّوا الرصاص في صدورهم، والمتظاهرين الذين هتفوا وحلموا وأملوا فاعتقلوا وجوّعوا وعذبوا وتعفنوا وقتلوا في السجون، ثم ننهال باللوم على الذين رفعوا السلاح لحماية بيوتهم وأعراضهم «فعسكروا» الثورة، وعلى الذين استفزتهم طائفية النظام وحماته من ميليشيات شيعية وبحثوا عن هويّة في زمن سقوط الأيديولوجيات «فأسلموا» الثورة الخ…

نستطيع طبعاً، كما يفعل الكثيرون الآن، أن نلوم كل هؤلاء، غير أن هذا لا يغيّر من حقيقة أن من ثاروا من السوريين، ببساطة، كانوا مدفوعين، ومنذ اللحظة الأولى، بدافع الحرّية العظيم من دون تحسّب للكلفة الهائلة التي سيدفعونها أو للأطوار التي سيضطرون لدخولها، وكان لهذه الطاقة الكبرى التي وجّهتهم، رغم عديد أخطائهم السياسية والعسكرية أن تصل بهم إلى مدارك أفضل بكثير مما وصلوا إليه لولا تكالب القوى العظمى والإقليمية ضدهم.

في رأس هذه القوى، بالطبع، كانت أمريكا التي حافظت بأظافرها وأنيابها على شرعيّة النظام ومنعت تمويل وتسليح أي حكومة معارضة تنازعه الشرعية، كما منعت تبلور رعاية تركيّة إقليميّة للمعارضة، من خلال المؤسسة العسكرية التي فهمت الأمر لاحقاً على أنه دعوة للانقلاب على السلطات المنتخبة، وكذلك عبر تسليح وتمويل وتنسيق هجمات فرع حزب العمال الكردستاني التركي في سوريا (الاتحاد الديمقراطي) بحيث شكّل تهديداً وجودياً لأنقرة، وأيضاً من خلال منع أي خطة لتحقيق منطقة آمنة داخل الحدود السورية، وأدت كل هذه الأفعال خدمات جلى للنظام السوري وأضراراً فائقة للمعارضة التي صار عليها مواجهة قوّات النظام وطيرانه والأكراد وتنظيم «الدولة الإسلامية» والميليشيات المدعومة إيرانيا، وأخيراً القوّة النارية غير المسبوقة للروس.

أما الاتحاد الأوروبي، ورغم تلقّيه موجات الهجرة وضربات الإرهاب، فقد خضع، طوال مراحل الثورة السورية، لموقف واشنطن، بل وقدّم أحياناً التبريرات لهذا الموقف، كما حصل عندما صوّت البرلمان البريطاني لعدم استخدام القوة ضد النظام السوري بعد استخدامه السلاح الكيميائي وهو ما كان أحد الأسباب التي بررت لإدارة باراك أوباما الامتناع بدورها عن الفعل، وانتهى الأمر به أخيراً برفع التهديد بالعقوبات على روسيا وبتسريب خطة تنص على دعم إصلاحات سياسية محدودة في نظام بشار الأسد مقابل الحصول على تمويل كبير لترميم آثار الأعطاب البنيوية الخطيرة التي لحقت بسوريا.

وإذا كان من نافل القول إن حلفاء بشّار الأسد في إيران والعراق ولبنان ساهموا مساهمة كبيرة في بقائه وفي الانتقام من الشعب السوري على ثورته، فلابد أيضاً أن نذكر أن بعض الدول العربية التي أدارت ملفّ تمويل وتسليح الثورة السورية، اللهم باستثناء قطر والسعودية، كانت تشنّ حرباً معلنة على بعض مكوّنات الثورة السورية، لأسباب أيديولوجية أو بسبب أوهام نخب متغطرسة، كما أنها ساهمت عمليّاً في توجيه ضربة ناجزة للثورات العربية عموماً، من خلال دعمها للثورة المضادة في مصر، والتي صارت الآن، بعد استحياء وتعفّف كاذب، لا تخجل من وقوفها في صف النظام الوحشيّ وحلفائه الروس والإيرانيين.

إن الثورات، في عمومها، ذات أكلاف تدميرية هائلة، وقد مرّت الثورة السورية، نتيجة همجيّة النظام وتدخّلات الأنظمة المتناقضة المصالح وتكالب أطراف محلّية وإقليمية عليها، في أطوار قاسية جدّاً فقدت فيها الكثير من معالمها الأولى وتصلّبت وتطرّفت وأخطأت، ولكنّ ملايين السوريين الذين أعطتهم الثورة حسّا جديداً بالهوية والانتماء والحرّية لا يمكن محوهم ولا كسرهم حتى لو أنجز العالم جريمته الكاملة.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى