أعرف أنه كتب الكثير عن جرائم بشار الأسد، وتم وصفه في أكثر من مقال “نيرون سورية”، في إحالة إلى “نيرون روما”، وتشبيهه اليوم بـ “نيرون حلب” لن يضيف الكثير إلى سجل جرائمه الفظيعة.
تشبيه جزار الشعب السوري بنيرون فيه إجحاف كبير في حق نيرون الحقيقي الذي كان شاعراً وموسيقياً وفناناً، قبل أن يكون طاغية، كما صورته أساطير كثيرة نسجت عنه. فأحياناً كثيرة، تبالغ روايات التاريخ في تضخيم بعض الأحداث وأسطرتها، لتضفي عليها هالة من التقديس أو التهويل. وعندما نقارن اليوم بين جرائم الأسد وجريمة نيرون، سيقول المرء ليت الأسد كان نيرونا، لأنه لا مقارنة بين خطيئة نيرون وجرائم الأسد الفظيعة.
أكتب هذا المقال، وأنا أتابع قوافل النازحين السوريين الخارجين من مذبحة حلب، مشاهد نساء وأطفال وشيوخ تشبه ملامح شخصيات أفلام مشهورة، جسّدت الكوارث الفظيعة التي ضربت الأرض، أو توقعت ما يمكن أن يضرب كوكبنا من كوارث، يمكن أن تسبب فواجع وآلاماً لبني البشر.
لكن ما نراه على شاشات التلفزة من صور لأناسٍ هائمين على وجوههم، عائدين للتو من جحيم حقيقي، خارجين من تحت الأنقاض، منبعثين من جديد من موت حقيقي، هي صور حقيقية وواقعية، تحدث اليوم في مدينة حلب التي تحترق أمام عيوننا منذ شهر ونيف. لسنا أمام شريط سينمائي، وإنما أمام واقع حزين تتسارع أحداثه، وتتوالى شخصياته الحقيقية على شاشاتنا الصغيرة، لا تكاد تلتقط أنفاسها، وهي تواجه أقدارها ومصائرها، وسط الخطر المحدق بها، وهي تحاول إنقاذ نفسها، والهروب نحو المجهول.
مع الأسف، من فرط المبالغة في الاستهلاك الإعلامي لهذه الصور، أصبحت تمر أمامنا مثل شريطٍ سينمائي تتلاحق أحداثه بإيقاع متسارع، لا يسمح لنا بالتقاط الأنفس، والصور التي تلاحقها كاميرات المصورين لا تكاد تستقر لنقل ما يجري من دون أن ترصد لنا بالفعل حقيقة كل ما يقع على أرض الواقع من جرائم لا تصل إليها عدساتها. لذلك، قد لا نعي أبعاد الكارثة حالياً. لكن، سيأتي اليوم الذي ستؤنبنا فيه الأجيال المقبلة على صمتنا الجماعي على دمار حلب وخراب سورية.
لذلك أقول إن في تشبيه جرائم الأسد اليوم بخطيئة نيرون إجحافاً وظلماً كبيراً لنيرون، فحريق روما استغرق خمسة أيام ونصف اليوم فقط، بينما حريق سورية يستمر منذ أكثر من خمس سنوات ونصف السنة. وحريق روما أتى فقط على ثلث المدينة، وأصاب ثلثها الثاني بأضرار بليغة، ونجا الثلث الآخر، فيما حريق سورية أتى على كل مدنها ومازال. وحتى الروايات التي بالغت في تصوير فظاعة نيرون وساديته، وحكت لنا إنه كان ينشد الشعر، أو يعزف القيثارة، وهو يشاهد روما تحترق، لا تستند إلى مراجع تاريخية ذات صدقية كبيرة.
فيما لدينا اليوم ما يتبث أن بشار الأسد سعيد بما تحققه قواته من هلاك لأبناء شعبه، ودمار وخراب لبلاده. ألم يصرح أخيراً إن الشعب السوري الذي قتل منه مئات الآلاف، وشرد وهجر منه الملايين “نجح في الحفاظ على وحدته ونسيجه الاجتماعي إلى حد كبير، بل وأصبح أكثر تماسكاً وتحصيناً في هذا الأمر، وهذا يشكل نقطة قوة بالنسبة لسورية” (!). مثل هذا القول لا يمكن أن يصدر إلا عن إنسان ساديٍّ، يتلذذ بمشهد الجثث المتناثرة تحت خراب قصف الطائرات والبراميل المتفجرة.
تقول كتب التاريخ إن نيرون لما علم بحريق روما سارع إلى نجدتها، وفتح قصوره لإيواء النازحين من أهلها، وأنفق من ماله الخاص، لإعادة بنائها، بل حتى كتب التاريخ التي تتهم نيرون بإحراق روما تبرّر ذلك بالقول إن خياله راوده أن يعيد بناء روما، فلجأ إلى إحراقها لإعادة بنائها، وفق تصميم حديث يروق له. فنيرون على الرغم من أنه كان طاغيةً، إلا أن في داخله كان يعيش فناناً مجنوناً، لكن بشار الأسد مجنون يعيش في داخله مجرم سادي قتال وسفاح، كلما دمر جزءاً من بلده وقتل الآلاف من أبناء شعبه وشرد الملايين منهم انتابه شعور بالنصر الذي لا يمكن أن يشعر به إلا مريض.
قال، أخيراً، وزير خارجية بريطانيا، بوريس جونسون، المعروف بتصريحاته الخارجة عن اللياقة الدبلوماسية، إن “انتصارات” الأسد “بلا قيمة”، لأنه “ينتصر” على الأبرياء من شعبه، ولأن “الملايين من شعبه يكرهونه”.
كانت نهاية نيرون الطاغية مأساوية، عندما انصرف عنه أصدقاؤه وانفرطت من حوله حاشيته، ووجد نفسه يعيش هارباً في كوخ، بعد أن حول بلاده إلى دمار وخراب كبير. ظل نيرون مختبئاً في كوخه، حتى سمع صوت سنابك الخيل تقترب من مخبئه، فمات منتحراً. هكذا مصير الطغاة، يموتون موت الجبناء. هتلر وموسيليني ومعمر القذافي وغيرهم كثيرون. ولن يختلف مصير الأسد عن مصير من سبقوه من طغاة جبابرة.
مات نيرون منتحراً، ولم تمت روما، وسوف يموت بشار الأسد، وستبقى حلب، ولن تموت سورية. وسنموت نحن أيضاً، وسيبقى عار صمتنا يلاحقنا إلى الأبد.
المصدر : العربي الجديد