في مثل هذه الأيام قبل 46 عاماً، أطاح حافظ الأسد برفاقه في قيادة حزب البعث، واستولى على السلطة في سوريا، وزج بالمذكورين في سجون حقده، فلم يفرج عنهم إلا أمواتاً أو على حافة القبر. وكان موضع تباه دائم له، ولخطاب النظام الإعلامي، أن هذا الانقلاب العسكري الذي سماه بـ»الحركة التصحيحية» كان آخر الانقلابات العسكرية في تاريخ سوريا الحديث الزاخر بها. هو الانقلاب الذي لا يمكن الانقلاب عليه، وفقاً للنظام الأمني الأخطبوطي الذي صممه وأنشأه بصبر وعناية: نظام تتنافس فيه مراكز القوة على الولاء للحاكم الفرد، وتقوم الوشاية فيه بدور صمام الأمان ضد أي طموحات محتملة لدى النخبة القيادية الأمنية ـ العسكرية التي تشكل الدعامة الأولى الأساسية لاستقرار الحكم، فيما تشكل القاعدة الاجتماعية الأهلية دعامتها الثانية، بديلاً من حزب البعث الذي انقلب عليه الأسد.
في السنوات العشر الفاصلة بين تأسيس النظام، والتمرد الإخواني في العام 1980، كرس الأسد نفسه كلاعب إقليمي تحتاجه القوى العظمى والإقليمية لضبط الوضعين اللبناني والفلسطيني، فبورك تدخله العسكري في لبنان (1976) أمريكياً وعربياً، واضطر الاتحاد السوفييتي إلى الموافقة عليه أيضاً بعد اعتراض أولي. كانت لهذا التدخل آثار كبيرة على نمط حكم الأسد في الداخل السوري. فقد تدربت وحدات قواته العسكرية، في لبنان، على التعامل مع السكان كقوة احتلال بربرية لا تحدها أي حدود قيمية، الأمر الذي سنرى نتائجه «الباهرة» في مدينة حماة التي اجتاحتها تلك القوات، في فبراير/شباط 1982، ونكلت بسكانها، فقتلت منهم عشرات الألوف، ودمرت كثيراً من أحياء المدينة المنكوبة فوق رؤوسهم.
جريمة حماة التي تواطأت على السكوت عليها ودفنها في الظلام، كل دول العالم بشرقة وغربه، ستشكل درساً مزدوجاً للشعب السوري بعمومه، وللقوات المسلحة بمختلف وحداتها. للأول لكي يسلِّم بالحكم الاستعماري الداخلي المطلق تسليماً مطلقاً لا فكاك منه، وللثانية لتتعرف على وظيفتها الحقيقية كقوة احتلال تحمي الحكم من الشعب، ولا تتردد لحظة واحدة في ارتكاب الفظائع بحقه إذا احتاج الأمر.
ولكي «تعم الفائدة» لم يكتف الأسد بضرب التمرد الإخواني، وما افترض أنه حاضنته الشعبية في عدد من المدن أبرزها حماه وحلب وجسر الشغور، بل ضرب معه أيضاً قوى سياسية معارضة من اليساريين والقوميين، ونقابات مهنية، ليؤكد للسوريين أن مشكلته ليست مع الإخوان المسلمين أو طليعتهم المقاتلة أو مع حركة تمرد مسلح، بل مع كل سوري يفكر بالاعتراض على حكمه الدكتاتوري الدموي.
انتصر الأسد، إذن، على المجتمع السوري، انتصاراً ماحقاً، في فبراير/ شباط 1982، وأدت هذه التجربة الكارثية إلى صعود دور أجهزة المخابرات في الحكم، بعدما بات الطلب على عملها كبيراً لضبط المجتمع ومراقبته، تفادياً لتكرار أي تمرد محتمل «من تحت»، في حين سيكون على الأسد ضرب مراكز القوة الكبيرة في الجيش الذي حقق له الانتصار المذكور، تفادياً لأي تمرد عليه «من فوق»، أو حتى لتقييده بضوابط شكل من أشكال القيادة الجماعية التي من شأنها أن تحد من تفرده. فكان تمرد شقيقه رفعت الأسد عليه، إبان مرضه في العام 1982، مناسبةً لتهميش الرؤوس الكبيرة في الجيش التي كانت ترى أن الأسد مدين لها ببقائه في الحكم بعد «انتصار حماه» وهزيمة لبنان أمام الاجتياح الإسرائيلي، في العام نفسه (1982).
في الفترة اللاحقة على كارثة حماة، عمل الجهاز الإيديولوجي للنظام، بكامل طاقته، على صناعة عبادة الحاكم الفرد، لشخص يفتقد أدنى مواصفات الكاريزما المعهودة لدى حكام دكتاتوريين في تجارب تاريخية أخرى، على ما لاحظت ليزا وادين في كتابها «السيطرة الغامضة». والحال أنه لا يمكن لحاكم ليست لديه أي قضية عامة، غير تأبيد حكمه، ولا أي مشروع مستقبلي للبلد الذي يحكمه غير استباحة ثرواته، أن يتمتع بدور «الحاكم الفرد المعبود» مهما تمتع بجاذبية أو كاريزما شخصية. وقد افتقد الأسد للشرطين كليهما، أي المشروع العام والجاذبية الشخصية معاً. وهكذا ستتم صناعة عبادة الفرد، بدايةً من العام 1982، بالعنف والقسر والترويع فقط، وبلا أي عنصر اقناع مما تتطلبه الهيمنة بمعناها الغرامشي.
من المحتمل أن أحلام تأبيد حكم سوريا في عائلته الصغيرة، بتوريثه لابنه البكر، قد بدأت منذ تلك الفترة، ولعل طموح شقيقه المتهور رفعت، وتمكنه من القضاء بسرعة على تمرده، سهلا عليه النقلة التالية باتجاه التوريث، من حيث شكلت محاولة رفعت سابقة وراثية لم تلق اعتراضات جدية من المجتمع الدولي والإقليمي، ووقف السوريون «المضبوعون» أمامها متفرجين.
بعدما انتهى الأسد من ضبط النخبة العسكرية ـ الأمنية، وضبع المجتمع قبل ذلك، فضلاً عن تكريس هيمنته على لبنان، وتوافقاته مع «المجتمع الدولي» والعربي بمشاركته في «حرب تحرير الكويت» تحت قيادة الضباط الأمريكيين، تفرغ، في عقد التسعينات، لشؤون الاقتصاد التي أرسى أولى أسس «لبرلتها» اللاحقة، من خلال ما سمي بقانون الاستثمار رقم عشرة. لعب هذا القانون دوراً مهماً في خلق بورجوازية جديدة موالية، من شأنها أن تشكل شبكة أمان اجتماعية إضافية للوريث المقبل، وخريطة طريق للتخلص من النظام الاشتراكي الذي تمسك الأسد به طوال العقدين الأولين من حكمه، وآن أوان التخلص منه بعد سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي.
في عقد التسعينات نفسه، بدأ الترويج لباسل الأسد من خلال التغطية الإعلامية اللافتة لأنشطته الرياضية والاجتماعية. ثم جاء مصرع هذا المرشح لوراثة الحكم، فاستبدله الأب ببشار الذي تم إعداده على عجل ليحل محل أبيه بعد موته. كانت أبرز المحطات في عهد الوريث: إخراج جيشه من لبنان بقرار من مجلس الأمن، ودعمه للسلفية الجهادية في العراق المحتل، وثورة السوريين عليه، في ربيع العام 2011.
في غضون عقد واحد من الحكم، نجح بشار الأسد في خسارة كل ما ورثه من أبيه: لبنان، وسوريا، والتوافقات العربية ـ الدولية التي أمنت استقرار الحكم ودوره الإقليمي معاً. صحيح أن التوافقات المذكورة، للإطاحة به هذه المرة، لم تتوفر بعد، لكن الأسد بات رهيناً لقوى داخلية وخارجية، لن يتمكن، بعد كل الكارثة المهولة التي أوقعها بسوريا، من التخلص منها.
المصدر : القدس العربي