يقف الطفل ذو الاثني عشر ربيعاً، وهو يرتجف من الخوف، استعداداً لما سمي “الفلقة” التي كان لها طريقتان: أولاهما تثبيته على كرسي مقلوب، ثم ضربه بعصا خشبية، أو كرباج مطاطي، على باطن قدميه، والثانية إرغامه على الوقوف مواجهاً المقعد المدرسي، بينما يقبض ثلاثة من زملائه، وهم جلوس، على يديه، بأمرٍ من المُدرّس الغاضب، حتى يستطيع جلده على مؤخرته، بالأدوات نفسها.
كان ذلك أول مشهد أصطدم به شخصياً في المدرسة الابتدائية التي انتقلت إليها، حين رحلت وأهلي من مدينة الزرقاء في الأردن، قبل ما يزيد على أربعة عقود، إلى قرية صغيرة اسمها داعل، تقع على الطريق المؤدية من مدينة درعا إلى العاصمة السورية دمشق.
ولم تكن عقوبة الضرب رداً على التقصير الدراسي، بحد ذاتها، هي ما صدمني، أنا القادم آنذاك من بيئةٍ تعليميةٍ مشابهة، بل أسلوب تنفيذها الذي بدا لي مهيناً أكثر، بالمقارنة مع استخدام العصا للضرب على باطن الكف، في المدرسة التي أمضيت فيها السنوات الخمس الأولى من مرحلة التعليم الابتدائي.
وإنْ أنس، فلن أنسى من تفاصيل الصورة الموثّقة في عمق ذاكرة الطفل الذي كنته، إصرار أحد المُدرِّسين، كلما كان يعاقب طفلاً، على أن يطلب منه إمعان النظر، عبر نافذة الصف المدرسي، في هضبة الجولان المحتلة، وقد كنا نستطيع رؤيتها بالعين المجرّدة، تعلو شاهقةً فوق سهول حوران؛ “إنهم هناك، يتجهزون لغزونا مجدّداً، بعدما هزمونا، واحتلوا أرضنا”، كان الأستاذ أحمد كناكري، وهذا هو اسمه، يقول محاولاً ربط العقاب القاسي الذي ينتهج، بمعانٍ تتجاوز الواجب المدرسي، أو التربية السلوكية، إلى الواجب الوطني والقومي.
هنا قد يبدو مغرياً للبحث والدراسة تشابه عقاب المدرسين تلاميذ المدارس، مع تعذيب السلطة معارضيها في السجون، طوال خمسين عاماً، وتبرير كل من النهجين بالصراع الخارجي، مع ضرورة ملاحظة الفرق الأكيد في النوايا والأهداف بين الدولة البوليسية والمعلم المجتهد.
لكن ضيق هذه الزاوية وعجالتها سيفرضان الاكتفاء بالأكثر إلحاحاً، وهو أن ما عرفته طفولتي في مدرسة داعل، لا سيما مفاهيم الأستاذ كناكري، قد شكلت، في مرحلة مبكرة من حياتي، حافزاً للتحصيل العلمي، بوصفه عملاً وطنياً، ثم ما لبثت التجربة كلها أن توارت عقوداً طويلة، وسقطت تفاصيلها من الذاكرة، قبل أن تعود مجدّداً، مع اندلاع الثورة السورية، في أواسط مارس/ آذار عام 2011.
كان مجرد ظهور اسم داعل في أخبار المظاهرات كافياً ليعيدني إليها، ويجعلني أحسّ بمعنى أن يهتف أبناؤها للكرامة، ويصرّوا، ومعهم آلاف من أبناء مدينة درعا، وريفها، ومعظم البلاد المنكوبة بحكم حزب البعث، على أن ينشدوا “الشعب السوري ما بينذل”، في حين لاح لي، آنذاك، أن الخطر الأكبر الذي بدأ يهدّد مصير الثورة، قد تبلورت مؤشراته أساساً، في قفز نظام الحكم على كل شعاراته القومية، ومسارعة رموزه إلى التحذير من أثر التطورات على أمن إسرائيل، بالكلام الصريح الصادر عن رجل الأعمال، رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، أولاً، ثم بافتعالهم ما سموها مسيرات العودة عبر الجولان، نموذجاً تطبيقياً لما يمكن أن يحدث، إذا تخلى الأعداء المزعومون عن عدوهم المفترض، بعدما ضمن سلامة حدودهم أربعة عقود خلت.
ومع مرور أزيد من سبع سنوات، بطشَ النظامُ وحلفاؤه خلالها بملايين السوريين قتلاً وتعذيباً وتشريداً، تعود داعل، وسواها من قرى حوران، إلى الواجهة مجدّداً، وقد قطع اللاعبون الإقليميون والدوليون الشك باليقين: لا مصلحة هنا تعلو على أمن إسرائيل. من أجله يبقى الأسد، وفي سبيل بقائه، يشيح العالم بوجهه عن موجة موتٍ وتهجيرٍ جديدة، متجاهلاً أنه بذلك يفخخ مستقبل المنطقة كلها بأرواح بشر، عرفوا طعم الكرامة بعد طول ذلّ، وافتدوها بدمهم وحياة أبنائهم.
المصدر : العربي الجديد