تعتقد واشنطن، استناداً إلى معلومات متابعين أميركيين للوضع في سوريا وخصوصاً بعد التدخّل العسكري الروسي المباشر في حربها، أن تقارير أجهزة الاستخبارات الروسية التي استند إليها الرئيس فلاديمير بوتين للتدخُّل لم تكن دقيقة، ذلك انه ظنّ بعد الاطلاع عليها أن المطلوب منه إرسال قوة جوّية وأخرى بحرية إلى سوريا وتزويد جيشها أسلحة حديثة ومتطوّرة تمكّنه من الانتصار على “داعش” و”الجيش السوري الحر” وسائر التنظيمات الإسلامية المعارضة.
لكن ما رُسم لم يحصل، إذ لمس بوتين بعد أسابيع من تدخّله العسكري العجز عن تحقيق انتصارات حاسمة سريعة على رغم المساعدة التي يتلقّاها الجيش من حليفه “حزب الله” وميليشيات أخرى. أثار ذلك قلقه. فهو من جهة لم يقرِّر التدخل كي يُمنى بالخسارة، ومن جهة أخرى لم يقرّر تدخلاً، شاملاً أسلحة البر والبحر والجو يمكّن الأسد، ومن ورائه إيران، من تحقيق الانتصار.
وهو من جهة ثالثة يعرف أن التدخّل الكبير والشامل غير مضمون النجاح، لأنه سيكتّل الدول العربية والإسلامية لمنع إيران وروسيا من السيطرة على سوريا ومن تغيير ديموغرافيتها. ويعرف أيضاً أن التدخّل العربي سيدفع موجات شعبية مسلمة بعشرات الآلاف إلى سوريا لقتال النظام وجيش روسيا، وسيؤمّن لها كل ما تحتاج إليه من مال وأسلحة وتدريب. ويعرف ثالثاً أن أميركا التي لم يستشرها قبل تدخّله في سوريا، والتي “طنَّشت” عليه لمعرفة إلى أين يريد أن يصل، لن تساعده في ظل استمرار سياسة التحدّي لها التي يمارسها منذ سنوات، وستتركه يغرق في المستنقع السوري.
وفي هذا المجال تؤكد معلومات غربية وردت الى قطب سياسي لبناني أن أميركا لن تخاف ولن تضعف وتفيض انسانيتها إذا غرق الشرق الأوسط في بحور من الدم. فهو لم يعد مهماً لها لأسباب عدة، منها انتفاء حاجتها إلى نفطه، ومنها تفاقم أزماته ومشكلاته وحروب شعوبه وأنظمته وارتكابها الخيانة في حق بعضها بعضاً كما في حق أميركا، ومنها رفضها على الأقل في ما تبقى من رئاسة أوباما توريط عسكرها في سوريا والمنطقة على نطاق واسع.
هل تعرّض بوتين لـ”الغش” من جهة أو جهات أخرى أيضاً؟
تفيد معلومات المتابعين الأميركيين أنفسهم أن المخابرات السورية “غشَّت” بدورها بوتين إذ صوّرت له الأوضاع العسكرية والقتالية للجيش السوري على غير حقيقتها. طبعاً أزعجه ذلك لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً حياله. وفي حال استمرار الوضع الصعب للأسد وعجز القوة الروسية الموجودة في سوريا عن القيام بما ظنّت أنها تستطيع القيام به، وهو إلى جانب تحصين مناطق سيطرته وربما توسيعها وتالياً فرض تسوية تناسبه وحليفه الإيراني، في هذه الحال فإن بوتين قد يحاول البحث عن “كبش محرقة” للتخلّص من الأزمة التي أوقع نفسه فيها. ما هو “كبش المحرقة” هذا أو من هو؟ لا أحد يعرف لكن لا يستبعد البعض أن يكون الرئيس السوري. طبعاً ربما يكون ذلك تعبيراً عن تمنيات.
لكن في النهاية لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحصل. إذ حتى إيران، المُصرّة على بقائه في السلطة، سواء رئيساً لسوريا كلها أو زعيماً لمنطقة واسعة منها، قد تصل إلى وضع تقبل فيه التخلّي عنه في مقابل المحافظة على مصالحها الحيوية في سوريا، التي حدّها الأقصى استمرار نفوذها فيها ومن خلالها في لبنان، وفي حدها الأدنى الاحتفاظ بخط استراتيجي برّي يضمن حماية “حزب الله” ودوره. علماً، أن الأقاويل أو ربما الشائعات، عن تباين في مواقف كل من روسيا وإيران حول الحرب السورية والأهداف المطلوب تحقيقها بواسطتها، تتكاثر يوماً بعد يوم. والنفي المستمر لها في الدولتين لا يعني أن هناك “دخاناً من دون نار”.
لكن الحاجة إلى تعاونهما في مواجهة “عدو” مشترك هو الآن الإرهاب وتنظيماته المدعوم من الدول العربية وأميركا، التي لم تسلّم بعد بمشروع إيران الإقليمي وبعودة روسيا دولة عظمى، ولن تسلّم بذلك مئة في المئة، لكن هذه الحاجة تدفعهما إلى تجاهل الكثير من الحساسيات والتناقضات. وهذه الحاجة ستكبر، لأن الاثنتين تعلمان أن التساهل في سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسيّة في يد إيران بسبب الغالبية الشيعية في العراق، لن يتبعه أبداً تساهل في سقوط عاصمة الدولة الأموية دمشق في يدها أيضاً جراء “أقلوية” حلفائها في سوريا.
تجدر الإشارة في النهاية إلى أن التقدّم المستمر نحو حلب بعد فك الحصار عن مطار كويرس يلقي ظلاً من الشك على المعلومات المتعلّقة بالتقارير المخابراتية الروسية والسورية غير الدقيقة.
المصدر : النهار