ما حصل في سورية، وعلى الصعيد المجتمعي، هو تكريس الشعور لدى كل جماعة من الأطراف المتناحرة بأن لديها الملكية الحصرية للقانون الأخلاقي والضمير، التي تؤهلها لأن تحكم بأنها الصح المطلق والخير المطلق والوطنية الكاملة، وبالتالي حيازتها مبرّر استخدام العنف، بكل أشكاله ودرجاته تجاه الآخر الذي يخالف ناموسها ومنظومتها القيمية. وفي المحصلة، كان الجميع يضحّون بالأبرياء. صراع على السلطة والحيازة والنفوذ حولوه في الوعي الجمعي إلى صراع قيم وشريعة حياة.
وقع السوريون بين قدَرين، كل منهما غاشمٌ ولا يرحم، نظام قمعي عنيف، وفصائل مواجهة له تسلحت، وارتهنت مثلما ارتهن النظام إلى جهات خارجية، فقضوا على حلم الشعب في الحرية والعدالة والمساواة وصون الكرامة قبل كل شيء، ولم يقدموا صورة بديلة للمستقبل، فضاع المعنى، بل قُصف أي معنى، ولم يبقَ شعار على الشعب أن يلهث خلفه غير إسقاط النظام، متعامين عن حقيقةٍ جليةٍ ساطعةٍ أنهم ساهموا في مباركة النظام وتأييده من غالبية العالم.
قدّم هذا الشعب الضحية الكثير مرغمًا، إذ من قال إن هذا هو شكل ثورته المنشودة؟ من يتابع الانتقام الهمجي من الغوطة، والصور والمشاهد الحية من قلب الحدث، يعرف أي قدر واجه هؤلاء السوريون اليتامى المكشوفون على كل شرور العالم، مشاهد تفوق الواقع وتربك الخيال، مشاهد تدفع العقل إلى الجنون، والضمير إلى النزيف. كان هؤلاء السوريون البسطاء أناسًا يعيشون كما باقي خلق الله، لهم بيوتهم وأراضيهم وأشغالهم وأسرهم وأحلامهم وطموحاتهم، لم يسألهم أحد، مثلما لم يُسأل أي من السوريين، إن كانوا يريدون ثورة على شكل هذه الحرب اللئيمة، بل انقضوا على حلمهم بتغيير حياتهم، وأوهموهم بأن الثورة تتحقق بالنموذج الذي فرضوه، ولم يكونوا أرحم من النظام. وجرفت الثورة بشكلها الذي أجبرت عليه هؤلاء الناس إلى أتونها، كثير منهم لم يختاروا حياتهم بعدها، بل صاروا مجبرين على حياةٍ يفرضها السلاح ومنطق القوة، فالقول في سورية صار للسلاح منذ زمن بعيد، منذ أسرع الحراك إلى الانسلاخ عن سلميته والتسلح لمواجهة عنف النظام.
رأينا صورا ومشاهد كثيرة، ربما مشاهد الدمار والأجساد المقطعة واللحم المحترق أو المشرشر، والأطفال المعفّرة وجوههم فاقدة الحياة للتو، بالدم والتراب، لم تعد صورا ذكية، لها القدرة نفسها التي كانت للصور الأولى، فقد مضغتها وعلكتها سنوات الحرب من كثرة الموت السوري وتعدّد أشكاله. لكن هناك صور ومشاهد تعرض مواقف معينة، تحمل بعدًا رمزيًا كبيرًا تبارى الأطراف الضالعون في إحداث المأساة في إشهارها، كان هناك رعبٌ ضد رعب وتبادل للموت، يشهد عليه القصف المتبادل بين النظام والفصائل المسلحة على المدنيين بين الغوطة وباقي أحياء دمشق، كباب توما أو سوق حي كشكول أخيرا. صارت الصورة المتوفرة بشكل لحظي بفضل التقنيات الحديثة جزءًا من الرعب، من الفوضى، من التهتك الأخلاقي.
أب يصرخ أمام شاشة جوّال يصوّره بأن ليس لديه ما يطعم أسرته، فكيلو السكر بخمسة عشر ألفًا، والشاي بخمسين، ورغيف الخبز الواحد بمائتين وخمسين، وغيرها وغيرها من بديهيات العيش. أب في شتاء دمشق القارس يمزّق أغطية الأسرة، ليحرقها ويطبخوا ويتدفأوا عليها، يطبخوا مما تبقى لديهم من خزين الحبوب اليابسة، ثم يختنق صوته بالبكاء، بكاؤه يجرح في الصميم. فعلى الرغم من الحصار، كانت هناك أنفاق يمر منها السلاح والسلع، لكن تجار الحروب وتجار الدم يتاجرون بالأرواح لتحصيل المال، ويمارسون البلطجة حدّ القتل لتطويع الإرادات.
رجل آخر يصرخ: ما عاد بدنا حرية.. من يلومه؟ ما نفع الحرية إذا كانت الحياة على مشارف الموت؟ وفي الضفة الأخرى، هناك إعلام النظام، أو الإعلام الموالي الذي ينقل مشاهد خروج المدنيين، هل كل ما عبر عنه الخارجون كان تحت ضغط القوة والتهديد من النظام؟ لا أظن، وهذا ليس شهادة براءة أو حسن سلوك للنظام، لكنه انطباع عاطفي تلقّى أقوال أولئك الناس على أنها صادقة، أقله في لحظتها. قال كثيرون إن المسلحين هتكوا حياتهم، وإنهم يأخذون أولادهم إلى القتال بالإكراه. ومنهم من قال إن أبناءه الفتيان من عمر الخمسة عشر لم يسمحوا له بالخروج، بل ومنهم من دعا، من قلب مفجوع، على المقاتلين الذين ساموهم الذل والجوع والهوان. ليس هذا الكلام مستغربا، فمنذ أسابيع قليلة، صرح سياسي معارض في موقع مسؤولية على إحدى الشاشات الناشطة في الشأن السوري، بأنهم لو سمحوا بخروج المدنيين سينفرد النظام وحلفاؤه بالثوار. إذن، كان المدنيون دروعًا بشرية. والنتيجة السافرة أن السوريين في هذه الحرب يمارسون إرهابًا ضد بعضهم بعضا.
تصير الصورة المتوفرة بشكل لحظي بفضل التقنيات الحديثة جزءًا من الرعب، من الفوضى، من التهتك الأخلاقي. وإذ يقول أندريه غازو: “ليس هنالك من صورة بريئة” فإن الصورة لا تنقل الحقائق، وإنما المعرفة عن هذه الحقائق، المعرفة التي تحدّدها إيديولوجيا من يلتقط الصورة ويوظفها.
ما مارسه كل الأطراف في سورية أفعال تتجاوز الأخلاق. كل حرب هي غير أخلاقية، بل هي، منذ البداية، ومهما ادّعت الأحقية، تضمر في باطنها إماتة الأخلاق والضمير كي تظفر بالفوز. والحرب حتمًا نتيجة أو امتداد للغياب السياسي، خصوصا أن هذا الغياب حاضر بجدارة في سورية، والرعب صار في كل مكان بسبب العنف المؤسسي والذهني والجسدي والنفسي. لسان حال كل طرف يقول: نحن الأقوى، ومع هذا صرنا ضحايا ومستهدفين من قوى تدعم العمالة والمتآمرين علينا. ونحن الوطن وحماة الوطن، فمن حقنا أن ننتقم لأننا مستهدفون وضحايا، ونستعمل كل أشكال العنف. ومن هذا العنف، ذلك النمط الخبيث، العنف الناعم الذي يدّعي النبل والشهامة، كما مشهد أحد أعضاء مجلس الشعب، وهو يوزع زجاجات الماء والسندويشات على المدنيين الخارجين من الغوطة، يساومهم على عطشهم وجوعهم، يمد الزجاجة وهو في الأعلى، يمدّها من فوق الرؤوس الحاملة عيونًا لا يمكن تفسير نظراتها والأيدي الممدودة في لحظةٍ زمنيةٍ تختصر تاريخًا بحاله، ويأمرهم بأن يردّدوا بالروح بالدم نفديك يا بشار. فأي كرمٍ وأية كرامةٍ هذه التي تحملها تلك المشهدية؟ أي انتصارٍ قائم على المساومة على العيش والكرامة؟ يمكن للمنتصر أن يلمّع انتصاره قليلاً في اللحظة الأخيرة، لكن سلوكًا كهذا ينتهك المعاني الأخلاقية، ولا يمكن أن يحرز الفوز والتعاطف حتى أمام مناصريه.
في مرايا بورخيس، تُطرد الشعوب المهزومة إلى ما خلف المرايا، وتفرض عليها القوة المنتصرة، قوة الإمبراطورية، أن تعكس صورة المنتصرين، لكن الحال لا يبقى على وضعه مع الوقت، فهذه الشعوب المطرودة المقهورة تستعيد وعيها ذاتها، وتحطم المرايا، وتخرج منها منطلقة لمحاربة الإمبراطورية. ولن يكون الشعب السوري استثناءً، فهذا منطق الأشياء، وسيكسر المرايا كلها، مرايا المستبدّين القدامى والحديثين، الطغاة الذين سرقوا ماضيه، والذين يسرقون حاضره ومستقبله.
المصدر : العربي الجديد