حين حرّر الثوار السوريون جسر الشغور بعد إدلب، وتقدّموا في قلب سهل الغاب، والذي يصل محافظة إدلب بمحافظتي اللاذقية من الغرب وحماه من الجنوب، ثم أمعنوا في اختراق السهل، بدت معها حماه تقترب من الخلاص من كابوس النظام. ومن جهة أخرى، شرعوا، أوائل عام 2015، بقرع أبواب عين الكروم بقوة، وهي التي لا يفصلها عن الصلنفة وقمة النبي يونس سوى مئات الأمتار، يساعدهم ثوار جبال الأكراد من فوق. حينها، أدرك الجميع أن هذه إشارات على هزيمة إيران لا لبس فيها، ولا نقول هزيمة النظام، لأن الأخير كان في حكم المهزوم منذ عام 2012، عندما كان الثوار، قبل أن يبتلوا بـ “داعش” وجبهة النصرة، يقاتلون في قلب دمشق وعلى أطراف المطار. وحينها، كانت داريا، بطلة الثورة وقرّة عين السوريين، قد أجهزت على الفرقة الرابعة، مفخرة الصناعة الطائفية للنظام وجهازه الذي أعدّه ليكون مصدرًا لرعب السوريين.
لم ينقذ إيران ومليشياتها، مؤقتاً، من شناعة هزيمة سوى روسيا، بطائراتها التي بدأت منذ فبراير/ شباط 2015 حرب الإبادة للسوريين. أراد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يضع السوريين أمام خياراتٍ قاتلة: الموت تحت الأنقاض، أو النزوح إلى خارج بلدهم، أو العودة إلى عبودية النظام، وهذا سيناريو أشد إيلامًا من السيناريوهين الأولين. فما يفعله السوريون بالروس، الآن، شرعوا في عمله مع إيران منذ سنة، بدأت علامات هزيمة الروس على أبواب حلب، ها هي الهزيمة تتكرّر مع الروس، ونظام بوتين ذي الطموح الإمبراطوي الذي يتلهف لمقايضة الشعب الروسي: الشعور بالعظمة الإمبراطورية الكاذب، لقاء تخليه عن الحرية. لم تنل طائرات بوتين من تطلع السوريين نحو تحرير بلادهم من الغزاة، وقد أبدوا الاستعداد لدفع التكاليف الباهظة من دمائهم. أثبتوا، في إصرارهم ووحدتهم، قدرتهم على اجتراح المعجزات، فكان فك الحصار عن حلب معلمة تاريخية، برهنت على إخفاق روسيا بوتين وعجز إيران، ومعها شراذمها الطائفية، عن كسر إرادة السوريين.
ساهم أطفال حلب نسبيًا في تحييد سلاح الطيران من المعركة، وذلك في تحويلهم الإطارات المشتعلة إلى صواريخ مضادة للطائرة، وقد أيقظ نبل معركة فكّ الطوق عن أهل حلب الشعور بالتلاحم الوطني، وحفَّزت السوريين على ابتكار أساليب تُنهي فجوة القوة التي تفصل بين جيش بوتين وبندقية المقاتل السوري. ولا بد أن يُدرك النظام وحلفاؤه، ربما بعد حين، الدروس القوية لمعركة الراموسة، وهي دروس ستغير الخطوط الاستراتيجية لمعركة السوريين مع الغزاة.
لعل أهم نتيجة مباشرة لهذا النصر على العدوان الروسي والإيراني، وتابعهم في قصر المهاجرين، استرجاع الثقة بالذات وبقدرات الشعب السوري، وشبابه وصبيته، في رد العدوان بعد تشوّش الصورة إثر ضربات النظام وشركائه، وتقاعس الجميع أمام المأساة.
وثانيًا، استعاد نجاح جيش الفتح اللحمة الوطنية في غمار الحماس الذي صاحبها، والمشاركة بأفراح النصر على قوة عظمى في الميدان الدولي (روسيا)، وعلى دولة عظمى في ميزان القوى الإقليمي (إيران)، وحرّك الجبهات الأخرى، وزرع الثقة بالمستقبل لدى قوى التغيير السورية. وثالثًاً، أدرك كل من له دراية بالوضع العسكري للنظام أن الثوار، في معركتهم لفك الحصار، ضربوا الجملة العصبية لقوة النظام العسكرية، واستولوا على قلعته الحصينة في جنوب حلب، في الراموسة وحولها، وهشّموا تحصيناته، وأحد أهم مصادر تسليحه، وأغلقوا طريق إمداده الرئيسي، وأن ما تبقى لديه من مصادر قوة لا يُقاس بما خسره في الميدان، وهذا يبشّر بأن تحرير حلب صار ممكناً، وباتت المسألة متوقفة على استمرار الوحدة العسكرية والشعبية التي تجلَّت في كسر الحصار، وعلى التصميم والثبات على الهدف. وفي المقابل، خسر النظام وحلفاؤه القدرة على المبادرة الاستراتيجية في شمال سورية. ورابعًا، أثبتت الملحمة الحلبية للروس أن القاعدة البشرية للنظام عاجزةٌ على أن تستثمر على الأرض ما يرتكبونه من تدميرٍ وقتلٍ من الجو، وأنه لم يعد مجديًا رهانهم على نظام غير قادرٍ سوى على القتل عن بعد، وعلى امتهان الكذب والصراخ الأجوف في محطاته الإذاعية والتلفزيونية، وأن مساعدة المليشيات التابعة لإيران له لا تأتي بغير استفزاز السوريين، وتزيدهم إصرارًا على الاستمرار في ثورتهم.
لهذا، من المحتمل أن تقود نتائج المعركة الروس إلى الاستنتاج الضروري: أن نصر الشعب السوري قادم، ووحده هذا الشعب قادر على طرد إرهابيي “داعش” من البلاد، فهو لن ينسى مذبحة هؤلاء أهله في دير الزور والرقة، وأن هذا التنظيم هو مخلب الثورة المضادة، استخدمه النظام والغرب والروس للإساءة للثورة ولطابعها الشعبي الديمقراطي، وتحول إلى عدو للشعب، مارس العدوان عليه مع النظام.
وخامساً، سوف يُدرك الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في نهاية حكمه، أن أولاد الحرفيين والأساتذة والموظفين من السوريين قادرون على إنجاز ما لم يتخيله خياله السياسي. وسيُدرك، بعد فوات الأوان، أن الشعب السوري، على الرغم من الدمار والنزوح والدم، وبعد خمس سنوات من المعاناة والإهمال الدولي، ما زال متمسكّا بحقه في تقرير مصيره، وقادرًا على صنع هذا المصير بقبضته، وإن المراهنة على صالح مسلّم وحزبه الانفصالي الفاشي، بلصق لوحة (ديمقراطية = اتحاد) على حزبه، حماقةٌ ستنتهي بفضيحة ومأساة، ولن يقبض مسلّم وجماعته سوى الأوهام التي ستتطاير أمام وحدة السوريين، وتصميمهم على التحرّر والوحدة. وسيدرك أوباما أنه حوَّل أميركا إلى المقاعد الخلفية للمسرح الدولي، ويقتصر دور وزير خارجيته، كيري، على القيام بدور الشارح والسائح في أصقاع الأرض، للعمل بجد على الإقناع، بدلاً من أن يكون في مركز قيادة العالم، فصنعت سياسته من بوتين نجمًا في فضاء السياسة الدولية، بالسماح له باستعراض القوة على حساب خفوت دور أوباما، ودولته الجبارة. وسيدرك أوباما، بعد فوات الأوان، أن المعادلات الجافّة التي يرسمها مدير سياسته الخارجية حبر على ماء، وربما ستجبرُه ملحمة حلب على الإقلاع عن سياسة تأهيل بشار الأسد الذي أرجعته معركة حلب إلى الجحر الذي يستحقه.
سادساً: سيكون أول الخاسرين والمحبطين والمهزومين من هذا النصر حزب الله الذي افتتح معركة حلب بخطابٍ لأمينه العام، حسن نصرالله، قال فيه إن أمامه معركة تاريخية، ستقرّر مصير سورية والعراق ولبنان. وقال إن تحرير القدس يمر بحلب، مقلدًا، خطاب الخميني عام 1982، إن تحرير القدس يمر ببغداد. سابعاً، فتح الثوار السوريون الطريق أمام الرئيس التركي، أردوغان، ليقول كلمته الواضحة إلى بوتين، ويستطيع أن يتحدّث على أساس ميزاني القوى الجديدين، العسكري والمعنوي، فالثوار غدوا أكثر وحدةً ومصداقيةً والتحاماً بالجمهور، وثقة بالمستقبل، بينما يعاني النظام من ضيق قاعدته الشعبية، وتقدم المليشيا الإيرانية ميدان الحرب والسياسة على حساب جيشه الذي لا يليق به سوى لقب العصابة الطائفية. ثامنًا، ستفرض نتائج هذه المعركة نفسها بقوة على طاولة مؤتمر جنيف، ستمنح القوة للموقف التفاوضي للمعارضة، فأصبح ممكنًا إبعاد الأسد عن المرحلة الانتقالية.
تاسعًا، على حزب الاتحاد الديمقراطي قراءة معركة حلب، وأن يعرف أن احتلاله الشيخ مقصود وعفرين وعين العرب والحسكة، وأيضًا تدمير منبج، وتهجير مئتي ألف من سكانها بذريعة الحرب على الإرهاب بالاستقواء بجيوش الولايات المتحدة، المغرمة به، لن يفيده في تقرير مستقبل سورية، فكل الصور المبهرجة التي يراها، هو وحزبه، ليست سوى وقائع أتته في غفلة من الزمن السوري الذي سيعود، ربما سيلمس ذلك قريبًا في الشيخ مقصود، وطريق الكاستلو. وليس بعيداً علينا أن يعرف صالح مسلّم أنه دخل في مغامرةٍ، لولا تكالب نصف العالم على الشعب السوري لما حدثت. عاشرًا، العرب، ولا سيما دول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية وقطر، وهي التي تتصدّر الموقف السياسي العربي في مواجه التوسعية الإيرانية، ستمنحها نتائج هذه المعركة إمكانية الخروج من حلقة الخيارات الضيقة إلى رحاب أفقٍ استراتيجي أوسع، لتقوم بواجباتها تجاه إخوانها في سورية.
الدرس الكبير المفترض أن تستخلصه قوى الثورة السورية، العسكرية والسياسية، من هذه المواجهة الكبرى، أن سلاح النصر في متناولها، عليهم أن يُحسنوا استخدامه، وهو الوحدة، والإصغاء لصوت الناس المتلهفين للخلاص من الوحش الأكبر، أي نظام الاستبداد المليشياوي، نظام الطغمة الذي جلب، في أذياله، زحفاً طائفياً إيرانياً يستهدف الاحتلال والهوية العربية والثقافية للشعب السوري الذي صار على اقتناع بأن معركته من أجل الحرية تمر عبر التحرّر من الاحتلال والغزو. لكن، وإن صبر على سلوكيات بعض الفصائل العسكرية، لتجاهلها طموحاته إلى الحرية والديمقراطية من أجل القضاء على (الوحش)، فهو لن يساوم على شوقه إلى الحرية، وإلى حياة الاحترام والكرامة وحكم القانون، ويبقى تحقّق هذا الشوق واجبًا عليه، وممكنًا أيضًا.
المصدر : العربي الجديد