حلبمقالات

جورج سمعان – لإيران حصتها في الموصل وحلب فماذا عن تركيا؟

لن يتوقف الصخب المرافق الاستعدادات لمعركة الموصل. والأرجح أنه لن يتوقف أثناء المعركة التي باتت قريبة ولا بعد انتهائها. ومرد هذا الصخب إلى تنوع الأطراف الطامحة إلى المشاركة في تحرير المدينة. وإلى اختلاف أجندات هذه الأطراف. والأهم أنها تاريخياً شكلت عقدة وصل بين بلاد الرافدين وإيران وتركيا. لذا، سيؤشر مستقبلها بعد التحرير إلى مآل محافظة نينوى ومستقبل العراق برمته وأهل السنّة خصوصاً وسائر القوى المنخرطة تحت شعار محاربة «داعش». فالذين سيمسكون بها أو يتقاسمونها ستكون لهم كلمة وازنة في تقاسم السلطة في كل البلاد. لهذا السبب، ربما تتأخر ساعة الصفر لانطلاق الحرب من أجل تحريرها.

وقد تتأخر الساعة بانتظار ما سيؤول إليه مصير مدينة حلب. فالأميركيون الذين يديرون عملياً معركة ثاني أكبر مدن العراق، وهم من يرسم حدود الأدوار فيها يعنيهم مصير الإرهابيين بعد تحريرها. ومما لا شك فيه أن «تنظيم الدولة» لن يجد مفراً من التوجه نحو الرقة، ملجأه الأخير. وهو ما قد يبدل في مجريات الحرب في سورية برمته. وربما أعاق خطط النظام في دمشق وحلفائه الروس والإيرانيين الذين يرفعون شعار الحسم العسكري أساساً لأي تسوية لأزمة بلاد الشام.

اختار الأميركيون الجيش العراقي و «البيشمركة» قوة أساسية في معركة الموصل. وعززوا حضور قواتهم بمزيد من الجنود، بناء على طلب الحكومة. اطمأنوا منذ أن تدخل الروس في سورية وأقاموا وحدة تنسيق أمنية مع بغداد ودمشق وطهران في العراق، إلى أن موسكو لن تُستدعى إلى بلاد الرافدين كما هي الحال في بلاد الشام. كأن ثمة تفاهماً بين الدولتين الكبريين على تقاسم النفوذ: لنا هنا ولكم هناك. وهذا ما تشي به الحملة الروسية على حلب من جهة والحملة الأميركية القريبة على الموصل.

والقاسم المشترك هنا وهناك إيران وتركيا. وهذا مرد الصخب المرتفع بين الأطراف الإقليمية والمحلية المنخرطة في الحرب على «تنظيم الدولة»، والمصاحب الحملتين على المدينتين الرئيسيتين. وواضح أن ثمة صراعاً علنياً بين طهران وأنقرة على وراثة «داعش» في محافظة نينوى كلها، فضلاً عن شهية الكرد الذين لا يخفون أن تضحياتهم في مكافحة الإرهاب لن تكون مجانية. الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته يحذران منذ أيام من خطر مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في معركة استعادة الموصل. ولا تقيم وزناً لاعتراضات حكومة بغداد التي نقلت الأزمة بينهما إلى مجلس الأمن الذي يقلل هو الآخر من شأن الشكوى التي رفعها وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، على حد ما صرح به الوزير نفسه. وحكومة بن علي يلدريم ليست وحدها في معارضة اشتراك الميليشيات الشيعية. واشنطن تعترض أيضاً. فضلاً عن قادة «الحشد العشائري» السنّي. بينما يصر «الحشد» على دوره في تحرير المدينة.

الأكثر خطراً في هذا الصخب المواكب حملةَ استعادة الموصل هو الصراعات في صفوف القوى السياسية العراقية كافة بلا استثناء. ولم تعد هذه الصراعات بين المكونات والطوائف والعرقيات. نخرت صفوف الجميع. تحالف القوى الشيعية يقيم على جمر هدأت طهران من لهيبه أخيراً. أعادت التيار الصدري إلى قلب التحالف. وقدمت لرئاسة التحالف عمار الحكيم زعيم المجلس الأعلى الإسلامي. وخففت من حملة نوري المالكي على خصومه. وأرجأت سعيه إلى إطاحة الوزير الجعفري الذي كان عراب إخراجه من رئاسة الحكومة. وكبحت حملته على رئيس الوزراء حيدر العبادي.

واضح أنها لا ترغب في ضعضعة صفوف القوى الشيعية على أبواب تغيير كبير سيخلفه تحرير الموصل. وليس وضع الجبهة السنّية بأفضل حال بعد إطاحة وزير الدفاع من منصبه. حتى العشائر تخوض صراعاتها لتحجز لها حصة من ميراث «أبي بكر البغدادي». أما الكرد فواضح تماماً أن إطاحة وزير المال هوشيار زيباري وجهت ضربة قاسية إلى تحالفهم مع القوى الشيعية، مثلما عمقت الخلافات بينهم، بين الحزب الديموقراطي الذي يتزعمه رئيس كردستان مسعود بارزاني من جهة والاتحاد الوطني وحركة «التغيير» من جهة ثانية.

وقد اتهم زيباري زعيم «دولة القانون» بأنه وراء إقالته خطوة على طريق إزاحة رئيس الوزراء. وقد ساهمت أصوات الكرد المناوئة لبارزاني في توفير الأصوات المطلوبة لإطاحة وزير المال. لذلك، لم يتأخر رئيس الإقليم الكردي في التوجه إلى بغداد سعياً لإقامة تحالف جديد مع القوى الشيعية وعلى رأسها رئيس الحكومة والتيار الصدري والحكيم… على رغم أن الخلافات بين بغداد وأربيل عميقة إلى درجة يستحيل معها التفاهم على اتفاق ينهي خلافات على تقاسم الأرض والثروة النفطية، لم تجد لها تسوية على رغم التفاهم المتين الذي نشأ بين المكونين الكردي والشيعي منذ الغزو الأميركي بلادَ الرافدين. علماً أن الجمهورية الإسلامية كانت ولا تزال عاملاً مساهماً في الخلافات الكردية، مثلما هي ضابطٌ حدودَ الخلافات بين القوى الشيعية… ولو إلى حين.

تسعى الميليشيات الشيعية من وراء مشاركتها في تحرير الموصل إلى مد نفوذها، ومن ورائه نفوذ إيران إلى مناطق الأكثرية السنّية لترسيخ حضورها في العراق وإبعاد أي تهديد محتمل لهذا الحضور. كما تسعى إلى الحد من التمدد الكردي في مزيد من الأراضي، فيما لم تهضم بعد تغلغله في كركوك. بل لن تسكت على خروج المدينة عن السلطة. وتدرك أن مساهمة «البيشمركة» في تحرير الموصل يرسخ حضور حكومة أربيل في محيط المدينة. ويسهل عليها الدفاع عن انتشارها في الأراضي المتنازع عليها. مثلما يسهل عليها التواصل التجاري والاقتصادي مع تركيا. وتعي ميليشيات «الحشد» أن عودة القوى السنّية إلى إدارة محافظة نينوى وحدها يعزز موقع هؤلاء الذين حاولت حكومة المالكي مواجهتهم في السنوات الأخيرة وساهمت في قيام «دولة البغدادي».

ولا تخفي طهران رغبتها في إبعاد النفوذ التركي عن العراق وكردستان، كما هي سياستها في سورية. قد تكتفي بترك الأرياف المحاذية لتركيا، والتي تعتبرها هذه جزءاً من فضائها الأمني ومصالحها السياسية والاقتصادية. لذلك، لم تتوانَ عن تعزيز الشقاق داخل صفوف الكرد والسنّة العرب أيضاً. وإن راج أنها على دراية بالتفاهم بين أنقرة وموسكو في شأن مستقبل حلب، وتعي ما يربط بين أنقرة وواشنطن على رغم ما يشوب العلاقة بين العاصمتين هذه الأيام. فما لا يغيب عن حساباتها أن هناك أكثر من مطرقة تضرب على أوتارها. من المرجعية في النجف إلى تشظي القوى الشيعية وتنافسها على السلطة وما تدر من مكاسب ومصالح. ومن العودة الأميركية وما قد تخلف من مكاسب للكرد والسنّة العرب… إلى مشهد التظاهرات الشعبية في الساحات التي كانت تنادي قبل أشهر بأعلى الصوت برفع يد طهران عن بغداد!

أما حكومة بن علي يلدريم فتصر على دورها في تحرير الموصل، كما الرقة. لم تلتفت إلى اعتراض بغداد ودمشق قبلها على تدخلها الميداني. ولم تستدعِ موافقة من المنظمة الدولية. حجتها كما الآخرون أنها جزء من التحالف الدولي لمحاربة «دولة الخلافة» و «دولة الكردستاني». لكن هدفها الأول ضمان قدرتها على إحباط تمدد حزب العمال الكردستاني في كلتا المدينتين والبلدين أيضاً. وبعد ذلك عدم ترك الجمهورية الإسلامية لاعباً وحيداً في الإقليم. أما الميليشيات السنّية من «حشد» وطني أو عشائري فتستقوي بالموقفين الأميركي والتركي لاستعادة حكم المدينة. لأنها تدرك أن خسارتها ثاني أكبر مدن البلاد يعني سقوط آخر قلاعها في مواجهة تفرد السلطة المركزية في إدارة العراق وثروته، وتعريض محافظة نينوى للتقسيم. وهذا ما يقود إلى تقويض طموحها إلى إقامة إقليم لأهل السنّة على غرار كردستان.

إذا كان مصير حلب سيقرر مستقبل سورية، فإن مصير الموصل سيقرر أيضاً مستقبل العراق. ستحصد إيران الكثير من استعادة دمشق للعاصمة الشمالية. وسيكون لها نصيبها من استعادة المدينة الثانية في العراق الذي قد ينزلق إلى حروب أهلية. يبقى السؤال عن حصة تركيا، وعن دور الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتحملان العبء الأكبر في إدارة الحملتين هنا وهناك. هل تبقى لديهما القدرة على التحكم برسم المشهد الإقليمي أم يسلمان للقوى الإقليمية بحصاد ما يزرعان؟

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى