في مطلع تشرين الأول (نوفمبر) الماضي، وبصدد تلمّس بعض قسمات السياسة السورية للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب؛ اعتبر كاتب هذه السطور أن عملية «درع الفرات» ـ التي سكتت عنها موسكو، وقبلت بها واشنطن بعد تمنّع ـ قد تصلح نموذجاً للتدخّل الذي ينسجم مع «عقيدة ترامب». فإذا صحّ هذا الاحتمال (وكان، بالطبع، محض قراءة جيو ـ سياسية ترجيحية في حينه)، فإنّ اللاعب الأبرز في سوريا ما بعد ترامب، قد يصبح رجب طيب أردوغان.
ويبدو اليوم أنّ عقدة ـ أو بالأحرى: معركة ـ بلدة الباب، شمال شرق حلب، لا تؤكد تلك الفرضية، تدريجياً على الأقلّ، فحسب؛ بل يلوح أنّ مداخل الباب الشمالية، من حيث توغلت القوات التركية وفصائل الجيش السوري الحرّ المقاتلة معها، أصبحت بوّابات عبور كبرى لتحقيق سلسلة من أهداف أردوغان الراهنة في الشمال السوري.
وللمرء أن يبدأ من هدف ستراتيجي مركزي، حكم منذ عقود، ولسوف يظلّ يحكم، علاقة أنقرة بالملفّ السوري؛ أي الملفّ الكردي، والحيلولة دون نشوء، أو حتى توطيد أيّ سُبُل لتأسيس، كيان كردي مستقلّ على أيّ نحو، فكيف إذا كان تحت سيطرة «حزب العمال الكردستاني»، في أصله التركي، تحت ستار فرعه السوري. وعلى ضوء مجريات معركة الباب الأخيرة، بات متاحاً أمام أردوغان أن ينطق بالتوسيع الأعلى لهذا الهدف: إجبار القوى الكردية على الانسحاب من منبج، طوعاً (عن طريق الضغط الأمريكي)، أو قتالاً (وهو ما يتمناه جنرالات أنقرة، قبل ساستها المدنيين)؛ واستطراداً، قطع أيّ اتصال جغرافي كردي محتمل، بين كوباني وعفرين.
لم يكن غريباً، والحال هذه، أن يعلن أردوغان ـ في خطاب رسمي وليس ضمن أحاديث مغلقة، وثمة فارق دعاوي جوهري بين المستويين ـ أنّ «الهدف الأقصى»، الذي تسعى إليه تركيا من عملية «درع الفرات»، هو إقامة منطقة آمنة بمساحة خمسة آلاف كم مربع؛ تدخل في نطاقها بلدتا الباب ومنبج، ثمّ… مدينة الرقة، ذاتها! أكثر من هذا، أضاف أردوغان أنّ منطقة كهذه يجب، بالضرورة، أن تكون محظورة على الطيران، وأنه ناقش هذا التفصيل مع الولايات المتحدة وروسيا (وليس إيران، جدير بالانتباه!). هي، على الأرجح أيضاً، نقطة أولى على جدول أعمال اللقاء الهامّ بين الجنرال خلوصي أكار، رئيس هيئة الأركان التركي، ونظيره الأمريكي الجنرال جوزيف دانفورد.
ثمة، إلى هذا كله، الكثير من المغزى في أنّ تناغماً واضحاً بين «الأعداء»، إذا جاز التعبير، بات يترسخ أكثر فأكثر في معركة الباب؛ بين أطراف «درع الفرات» في شمال البلدة، وقوّات النظام السوري في جنوبها: كلاهما يزحف نحو قلب المدينة، ليس في إطار تنافس قد يفضي إلى صدام، بل في سياق تفاهم صامت يمكن أن ينتهي إلى تنسيق! ولن يكون خارج هذا التناغم أن تتوصل أنقرة إلى اتفاق ـ صامت بدوره، أو غير معلَن ـ مفاده أنّ طريق منبج ـ حلب هو حدّ التماس، وربما «الحدود»، بين «درع الفرات» والنظام السوري. فإذا أُضيفت إلى هذا المشهد حقيقة تقييد فاعلية إيران، ممثلة في «حزب الله» والميليشيات الأخرى ذات التكوين المذهبي الشيعي (والتي لم تفلح في كسر جمودها جهودُ الجنرال قاسم سليماني مع موسكو)؛ فإنّ خلاصة المعادلة تؤكد رجحان الكفة الأردوغانية؛ حتى إشعار آخر، على الأقلّ.
ولا يخفى، بالطبع، أنّ ترسيخ هذا الجانب «السوري» الراهن في شخصية الرئيس التركي ما كان له أن يُستكمل على هذا النحو، التدريجي ولكن المتصاعد أيضاً، لولا تنازلات شتى اضطُرّ أردوغان إلى تقديمها بعد الانقلاب العسكري الفاشل؛ في ضوء المصالح القومية التركية، ثمّ مصلحة حزب «العدالة والتنمية»، و… مصلحته الشخصية؛ أوّلاً، ربما!
المصدر : القدس العربي