بكثيرٍ من الحذر والذكاء، تضع ليلى اللحم على وجه الطبق الذي تحضره، وتقلّي بعض الفول السوداني لتزينه، تقول إنها تضطر للخداع في التوزيع لتبدو هذه المكونات كثيرة، مؤكدةً أنها لم تعد تستخدم اللحم والمكسرات إلا في المناسبات، واليوم هي مضطرة لدعوة بعض الأقارب قبل سفرهم لهذا قررت استخدامهما.
ليلى موظفةٌ في مجال الإعلام، ويُعتبر راتبها أفضل من غيرها مقارنةً مع معدل الرواتب في سوريا، كما أن دخل زوجها مقبول أيضاً، غير أن الأرقام التي يجنيانها لا تتجاوز الـ 300 دولار شهرياً.
تقول ليلى إن الوضع الاقتصادي السيء أثر عليهما كثيراً، واختفت الرفاهيات من حياتهما، كما أن المطبخ الدمشقي الذي تعلمت صنوفه من والدتها، أصبح اليوم فقيراً بعد أن كان يشتهر باللحم والدسم، أما غالبية المأكولات التي تقوم بصنعها فتعتمد أساساً على الخضار وقليل من الزيت، وأحياناً مكعبات مرق الدجاج بدلاً من الدجاج أو اللحم.
وتتابع وهي تحضر طبق فاصولياء بالزيت، أنها تطبخ الدجاج مرة في الأسبوع تقريباً، أما اللحم فحضوره أقل بكثير بسبب ارتفاع سعره المبالغ فيه، حيث وصل إلى 5 آلاف ليرة سورية (حوالي 10 دولارات)، مضيفةً أن غلاء الأسعار لم يمس اللحم فقط، بل شمل تفاصيل أخرى مثل المكسرات، كاللوز والكاجو وحتى الفستق الحلبي، والتي عادةً ما يتم وضعها على الأطباق بعد تقليتهم بالسمنة لتجميل الأطباق ومنحها طعماً طيباً، لكنها استبدلتها بالفول السوداني الأرخص.
وتشير ليلى، وهي أم لثلاثة أطفال، إلى أنها تخطط لشهرها بشكل دقيق حتى لا تتعرض العائلة لأي أزمة، وحينما تحتاج شراء حاجات للمنزل أو ملابس، فإنها تضع حسابات أخرى لمثل هذه النفقات.
وتشرح أنها في هذا الشهر استفادت من موسم التنزيلات الذي بدأ مؤخراً، فاشترت بعض الملابس للأولاد ليرتدوها في الصيف القادم، ولهذا تقلصت الميزانية المخصصة للطعام وباتت مقتصرة على الأصناف الرخيصة.
أما بالنسبة للمطاعم والنزهات، فتؤكد أن الأمر أصبح نادراً في حياتهم، وباتوا يعتمدون الزيارات بين الأقارب والأصدقاء، وفي حال خروجهم لمطعم يختارون طلباتهم بحذر شديد، والتي تقتصر غالباً على المشروبات.
شاكرية بلبن فقط
لم تتخيل ربى الخوري في يوم من الأيام أن تقدم لأولادها الشاكرية – طبق سوري شهير يُحضر من قطع اللحم الكبيرة المسلوقة واللبن -، دون أي صنف من أصناف اللحم، وأن يقتصر الطبق على اللبن ومكعب مرق الدجاج بالإضافة إلى الأرز.
وتقول المُدرسة السورية إن دخلها لا يساعدها على التنويع في الأطباق، وباتت تقوم بالطبخ مرتين في الأسبوع لتوفير الغاز والزيت والكهرباء، مشيرةً إلى أنها في بدايات الأزمة السورية استبدلت اللحم الأحمر بالدجاج، إلا أنها اليوم استغنت عن الاثنين وبات حضورهما قليلاً جداً في المنزل.
وتذكر ربى كيف تتهرب من دعوات الأقارب، فهي لا تتمكن من تنفيذ دعوة غذاء في منزلها لأن مثل هذه الخطوة تحتاج لميزانية كبيرة قد تكلفها قضاء باقي الأسبوع من دون وجبات طعام نظامية، وتضيف أن التقنين في حياتهم لا يقتصر على الطبخ فقط، وإنما على بقية التفاصيل فهي كانت مدمنة على القهوة، ولكنها حالياً باتت تحرم نفسها ولم تعد تشربها كما في الماضي، لأنها كل أسبوع تحتاج 1200 ليرة (أكثر بقليل من دولارين) لشراء نصف كيلو بن من نوعية ليست جيدة كثيراً.
وأوقفت هذه السيدة السورية أيضاً النسكافيه واستخدمت قبل سنوات نوعية محلية، لكن مع استمرار ارتفاع سعرها استبدلتها بنوعية تباع بالوزن من دون أي اسم تجاري.
الفواكه والحلويات داخل مطبخ سيدات دمشق لم تسلم هي أيضاً من الأزمة، حيث توضح الخوري أن حضورهما تراجع كثيراً، خاصة الحلويات الشرقية التي تتكون من الفستق الحلبي، وفي العيد لم تشترِ أي صنف من أصناف الحلويات أو الشوكولا بسبب الغلاء الفاحش الذي سجلته.
واقتصرت ضيافتها على موجودات المنزل وبعض السكاكر للأولاد، أما في بقية أيام السنة فهي تصنع لابنها منتجات بسيطة من الطحين كالبسكويت، ولا تفضل صنع أصناف أخرى كالكاتو؛ لأن إنتاجه بات مكلفاً في البيت، وتفضل شراءه جاهزاً كل شهرين مرة تقريباً.
وعن الأطباق الشامية التقليدية، تؤكد الخوري بأن الكبة غابت حالياً من حياتهم؛ لأنها تحتاج لكثير من اللحم، وحينما تنوي صنعها تشترك مع شقيتها ويصنعان طبقاً مشتركاً لكلا العائلتين، وأحياناً يكتفون بالعجينة مع قليل من الحشو.
للعزاب حكايات أخرى
محمد سعد شاب أعزب تخرج من كلية الهندسة من حوالي 10 سنوات، والتحق بإحدى شركات القطاع الخاص، قبل الأزمة كان دخله يعادل ألف دولار، لكن اليوم باتت قيمته وبعد الزيادات لا تصل إلى المئتي دولار، لهذا لم يعد يسعفه وضعه المادي ولا واقع المدينة منذ سنوات بأن يعيش حياة كريمة كما يُريد، وبات يشعر بأنه فقير ومُجبر على تحديد نفقاته.
محمد يعتمد على المأكولات الجاهزة نظراً لكونه أعزب، وكانت خياراته في الماضي واسعة تمتد من اللحوم وتنتهي بالفلافل، لكن اليوم تقلصت الخيارات وخصص لنفسه مصروفاً يومياً لا يتجاوز ألف ليرة سورية (أي ما يعادل دولارين)، وبهذا المبلغ البسيط يمكنه تناول وجبة واحدة وأحياناً يشتري قطعاً محددة من الفواكه، أو قليلاً من الحلويات.
ويشرح سعد أنه في بعض أيام العمل قد يضطر لشراء شيء معين خلال اليوم، فيجبر في المساء على تقليص نفقاته، وينخفض المبلغ المخصص لـ 500 أو 600 ليرة، وفي هذه الحالة قد يشتري علبة تونة واحدة بدلاً من علبتين كما في الماضي.
ويتابع سعد بأنه كان من عشاق الموالح وهو صنف يضم الفستق الحلبي والكاجو واللوز والبزر وغيرها، لكنه لم يعد اليوم قادراً على شرائها، فأسعارها مرتفعة ولا تتناسب مع دخله، كما أنه كان يشتري الخبر الأبيض السياحي (خبز تنتجه مخابز خاصة) ولكنه الآـن بات مجبراً لشراء خبز الدولة الأسمر.
وجود النازحين انقذ الوضع
من جانبه، يؤكد نصر دياب بأن مطبخه لم يتأثر كثيراً بسبب الغلاء لأن منزلهم يضم عدة أشخاص عاملين، كما أنهم استقبلوا منذ بداية الأحداث أحد إخوتهم المُهجَّرين الذي انتقل للسكن معهم برفقة زوجته وابنته، وهو أيضاً موظف ويساهم في مصروف المنزل.
ويؤكد دياب الذي يعمل في عدة وظائف ليحافظ على مستوى حياة مقبولة، أن الحفاظ على طريقة أكلهم السابقة يجبرهم على تسخير كل ما يدخلونه لهذه الغاية، الأمر الذي ألغى من حياتهم المطاعم والأعياد وحتى الهدايا.
ويستدرك أن مداخيل العائلة تكفي للمأكولات الأساسية، وكثيراً ما يصنعون الحلويات في المنزل لأن تكلفتها تبقى أقل مقارنة مع الجاهزة.
المصدر : هاف بوست عربي