بات متداولا في كتابات وتحليلات منشورة، توصيف الأحداث التي عصفت بالعالم العربي بعد الثورات العربية بأنها “إرهاصات بين يدي سايكس بيكو الثانية”، ما يعني أن خارطة العالم العربي مرشحة لإعادة ترسيم حدودها من جديد، على أنقاض سايكس بيكو الأولى، وفق تلك الرؤى.
في هذا السياق، يرى الباحث السعودي، الدكتور وليد الهويريني، في كتابه “خارطة الدم.. هل بدأ العم سام في تقسيم أرض الإسلام؟” الصادر عن مركز “تكوين” سنة 2104، أن “مخطط التقسيم – الذي بدأ الغرب في حفره بعمق منذ غزو العراق عام 2003م – بدأ يتضح للعديد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين بعد الثورة السورية واهتزاز النظام العربي الرسمي أكثر من أي وقت مضى”.
استهل الهويريني مقدمة كتابه بتغريدة للكاتب والمحلل السياسي، ياسر الزعاترة جاء فيها “30 عاما وأنا أعايش السياسة العربية والإقليمية والدولية بشكل حثيث، لم أرَ المشهد أكثر تعقيدا وتركيبا وتناقضا مما هو عليه هذه الأيام”.
عقب الهويريني عليها قائلا: “بهذه التغريدة لخص الباحث والمحلل الأستاذ الزعاترة انطباعه تجاه الأحداث، بعد تعثر الربيع العربي واندلاع حالة السيولة الأمنية والسياسية في العراق ومصر، وهذا الانطباع يلف أذهان الكثيرين من المحللين والمتابعين، وهذا مبناه على أننا نشهد اضطرابا في خارطة الدول العربية، ورحيلا لنظم سياسية لها ثقلها في المنطقة ولها توازناتها وتحالفاتها التي اختلت بزوالها أو تفككها”.
ولأن المؤلف ينطلق في معالجته من أن الأحداث التي تجري في العالم العربي ما هي إلا إرهاصات بين يدي مشروع التقسيم، فقد أرجع “أسباب الغفلة عن مخطط التقسيم” إلى وجود ثلاثة اتجاهات حاولت استخدام ورقة “مخطط تقسيم العالم العربي” كأداة لتلميع صورتها وشيطنة خصومها، وهي:
– القوى التي تقود ما يسمى “بالثورة المضادة” في المنطقة العربية، وجميع من ينضوي تحت عباءتها من الإعلاميين والشرعيين والمثقفين ورجال الأعمال.
– بقايا النخب القومية العلمانية، والتي ترى في الثورات – بدافع قومي صرف – مشروعا لتقسيم العالم العربي، وما يسمى بالنظام العربي الرسمي الذي نشأ عقب رحيل الاستعمار، ويعد على علاّته وأمراضه واستبداد قادته بحسب وجهة نظرهم المشروع الرافض لهيمنة الاستعمار الغربي.
– النخب الليبرالية المتطرفة التي فقدت مكانتها الإعلامية ومكاسبها المادية بعد انتصار الإسلاميين في الانتخابات.
ووفقا لوجهة نظر المؤلف فإن “هذه الشرائح بتبنيها لمخطط التقسيم الذي ترغب في توظيفه لتبرير الأوضاع السائدة، أو التسويق لمشاريع غابرة فاشلة، قدمت أكبر مخدر لوعي الشعوب العربية، وبعض قيادات العمل الإسلامي، فمجرد انحياز هذه الاتجاهات للقائلين بأن للغرب تحركاته الفاعلة للسطو على مكتسبات الثورات، يتحول الناس بدافع نفسي للاتجاه المعاكس الذي يرى أن الغرب لا دور له في هذه الثورات، ولا يمكنه أن يؤثر على مسارها، وأن كل ما حدث جاء رغما عن أنف الغرب المتغطرس، وأن كل من يقول بهذا القول أو يتفق معه في بعض مساحاته فهو إما مأجور أو مأزوم بنظرية المؤامرة وقدرة الغرب الخارقة على التلاعب بالعالم كأحجار الشطرنج”.
إطلالة تاريخية على مخططات التقسيم
تتبع المؤلف جذور تقسيم المخططات الغربية للوطن العربي، فابتدأها بـ”وثيقة كامبل” (نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان)، الصادرة عن “المؤتمر الذي عُقد في لندن عام 1905م، لوضع تصور موحد للدول الاستعمارية من أجل اقتسام الغنائم بالعالم، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين، وهدف هذا المؤتمر إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا”.
ثم أتبعها بذكر اتفاقية سايكس بيكو المشهورة في 16 أيار/ مايو 1916 بين بريطانيا وفرنسا، نتيجة محادثات سرية دارت بين ممثل بريطانيا (مارك سايكس)، وممثل فرنسا (جورج بيكون)، اللذين عرضا نتائج محادثاتهما السرية على روسيا القيصرية، فوافقت عليها في مقابل اتفاق تعترف فيه بريطانيا وفرنسا بحقها في ضم مناطق معينة من آسيا الصغرى بعد الحرب، وبموجب معاهدة سايكس بيكو قسمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي إلى خمس مناطق…
وفي معرض بيانه لتاريخية تقسيم العالم العربي، أشار المؤلف إلى إعلان أتاتورك عن إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، وإعلانه عن قيام الدولة التركية الحديثة، “فكان الحدث إعلانا مروّعا لسقوط العالم الإسلامي بين براثن المستعمر الغربي، وتمزق الأمة بين دويلات ونظم تستمد أسباب بقائها ومشروعيتها من الاستعمار.. وأتى المؤلف على ذكر المشروع القومي الناصري الذي تعلقت به آمال الأمة ثم مُني بالفشل الذريع، والسقوط المريع بعد هزيمة حزيران 67.
وتحدث المؤلف إلى ما أسماه بـ”ميثاق غير مكتوب بين الغرب والنظم العربية الاستبدادية، تمثل في قيام تلك النظم بقمع الظاهرة الإسلامية بكل الوسائل والطرق الأمنية والسياسية والإعلامية في مقابل دعمها سياسيا وعسكريا وأمنيا، وبقدر ما حقق هذا الاستمتاع المتبادل المصالح الآنية للطرفين، بقدر ما أضرهما على المدى الاستراتيجي..”.
مخطط التقسيم.. من التنظير لأرض الواقع
وأشار المؤلف إلى أن “هذا المصطلح ظهر بشكل فاعل عندما تبناه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد ضربات 11 سبتمبر، وكانت وزيرة خارجيته كونداليزا رايس المبشر الأشهر لمشروع الشرق الأوسط الكبير ومصطلح “الفوضى الخلاقة”، وقد أصبح لدى الإدارة الأمريكية يقين بأن نشر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية هو الترياق المضاد للإرهاب، وأن العالم العربي يعيش أوضاعا شبيهة بدول أوروبا الشرقية، وبموجب هذه المقارنة فالحرب مع العالم الإسلامي ليست حربا عسكرية، بل حرب أفكار في المقام الأول، ونشر قيم الحرية..”.
في شباط/ فبراير 2004، قدم الرئيس بوش إلى مجموعة الثمانية مبادرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، ففي مقدمة مبادرته حذر بوش “من اقتراب الشرق الأوسط من الانفجار بسبب التدهور الاقتصادي والاستبداد السياسي، وخطورة ذلك على الغرب ومصالحه في المنطقة، وتلخص الورقة إصلاح النواقص التي حددتها تقارير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية العربية عبر محاور ثلاثة: تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، بناء مجتمع معرفي، توسيع الفرص الاقتصادية. وتقول ورقة المشروع ما نصه: “فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق فيه التنمية”.
ورأى الهويريني أن “من نافلة القول لمن خبر السياسة الأمريكية أن يدرك أن هذه شعارات يراد تحقيقها بحسب الفهم الغربي لها، وفي باطنها الأهداف الحقيقة للمشروع، والتي يمكن إيجاز أبرزها في ثلاث نقاط:
1- إعادة تشكيل وترتيب أوضاع المنطقة لتقبل النموذج الليبرالي عبر الديمقراطية الغربية.
2- تهيئة المنطقة للعولمة، وهيمنة الشركات الأمريكية والأوروبية العابرة للقارات على اقتصاد المنطقة.
3- دمج وتطبيع دولة الصهاينة مع العالم العربي في كيان شرق أوسطي.
عقب المؤلف على ذلك بقوله: “فالحديث الغربي عن نشر الديمقراطية والحريات في العالم العربي لا يعدو أن يكون سوى أداة لتحقيق الأطماع الاستعمارية الجديدة، ولهذا فهي تخضع في حجم توظيفها للأجندة الغربية، فالغرب عندما أراد الانقضاض على النفط الليبي قام بتوظيف شعارات الديمقراطية للتدخل العسكري في ليبيا وإسقاط القذافي، ولكنه الغرب نفسه لا يريد التدخل في سوريا لأجل الحريات والديمقراطية… فالمصلحة الغربية الاستعمارية لم تكن مع نشر الحريات، فتم وضعها في الأدراج مع تزويد كافة الأطراف المتحاربة بالسلاح بما يتيح تدمير سوريا – وهي إحدى دول الطوق – والتمهيد لتقسيمها، وهو الهدف الاستراتيجي”.
وأورد المؤلف في سياق إبرازه لمخططات التقسيم المقترحة، مقالا نشرته مجلة آرمد فورسس (القوات المسلحة الأمريكية) في حزيران/ يونيو 2006م، للجنرال المتقاعد رالف بيترز بعنوان (حدود الدم، كيف يبدو الشرق الأوسط بصورته الأفضل)، واصفا ذلك المقال بأنه “طبعة حديثة لمشروع تقسيم العالم الإسلامي الذي نظّر له المفكر الصهيوني برنارد لويس الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية..”.
وأشار المؤلف إلى أن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية نشرت في سبتمبر خريطة جديدة للعالم العربي، تُظهر تقسيما جديدا لبعض الدول العربية، حيث ستصبح خمس من هذه الدول أربع عشرة في التقسيم الجديد. وبحسب الخارطة فإن “السعودية وسوريا وليبيا واليمن والعراق هي الدول التي يشملها التقسيم المفترض”.
واستشهد المؤلف لإثبات نظرية تقسيم العالم العربي، بآراء باحثين ومحللين أمريكيين وإسرائيليين، كرئيس تحرير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية “ألوف بن”، والباحثين الأمريكيين فرانك جاكوبس وباراج خانا التي تتضمن شواهد كإرهاصات بين يدي تقسيم المنطقة.. وقد اعتنى المؤلف كثيرا بشرح نظرية “الفوضى الخلاقة” باعتبارها دليلا قويا على تقسيم المنطقة، معرفا لها بأنها “حالة جيوبوليتيكية تعمل على إيجاد نظام سياسي جديد وفعال بعد تدمير النظام القائم أو تحييده”.
وأشار المؤلف إلى أن “شواهد الواقع تجلي إرهاصات التقسيم”، موضحا أن “تعثر الثورة السورية والانقلاب العسكري في مصر على الحكومة المنتخبة أدى لإزالة الغشاوة عن أعين الكثيرين، والمأمول أن يؤدي هذا لإعادتنا لنقطة متوازنة في تحليل الواقع، واستشراف تحديات المستقبل، دون أن نبالغ في الأمنيات، كما حدث بعد نجاح ثورة 25 يناير، أو نوغل في السودواية والإحباط، كما حدث بعد الانقلاب عليها، والذي يظهر لي أن معطيات التقسيم بدت واضحة اليوم أكثر من ذي قبل..”.
من جهته، اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية، الدكتور أحمد سعيد نوفل، أن مشاريع تقسيم العالم العربي، قديمة حديثة، وأن ما يجري هذه الأيام في سوريا والعراق واليمن وليبيا هو امتداد لتلك المشروعات، مؤكدا أن تلك المشاريع تأتي لتصب في صالح “دولة إسرائيل” التي زرعت في قلب العالم العربي عنوة واغتصابا.
وفي تعقيبه على فكرة الكتاب المركزية (إعادة تقسيم الوطن العربي من جديد)، فقد أوضح نوفل أن ما جرى من مشاريع التقسيم القديمة، سواء في سايكس بيكو، أم غيرها من المشاريع التالية، وما يجري حاليا، هو مؤامرات حقيقية، ولا يمكن تسميتها إلا بذلك، وقد خططت لها الدول الغربية، لإبقاء المشرق العربي ضعيفا، وتحت السيطرة، لتحقيق مصالحه من جهة، وللمحافظة على أمن إسرائيل واستقرارها من جهة أخرى.