ميشيل كيلو – حرب التنافي المتبادل

لا آتي بجديد، إذا كتبت إن القضاء على شعب سورية هو هدف الحرب الأسدية. يعرف السوريون، بالفطرة والغريزة، أن بشار ورث خطة الحرب ضد الشعب كما الرئاسة عن أبيه، الذي كان قد أجرى تدريبات عديدة عليها أهمها في حماة عام 1982، وأن “جيشه العقائدي” جدّدها بلا انقطاع، ليكون مستعداً دوماً لمواجهة العدو الداخلي الذي يسمونه الشعب، فلا عجب إن كان انقلابه على رفاقه عام 1970 لحظةً مفصليةً في نشر وحدات من الجيش في جميع أنحاء سورية، وخصوصاً في دمشق التي أحاط بها وببقية مدن سورية الكبيرة إحاطة سوار بمعصم.

… وكان من يخدمون من أصدقائنا في المعسكرات القريبة من دمشق لا يصدّقون ما يجري خلال التدريبات، وكنا لا نصدق بدورنا ما يروونه عن هدفيها: مبنى الأركان والجامع الأموي: الأول لإحباط انقلاب عسكري، والثاني لسحق تمرد مجتمعي. عندما كنا نسأل: والعدو الصهيوني، ألا تتدربون على أهدافه، كانوا يردّون مستنكرين سذاجتنا: أي عدو صهيوني، أيها الدراويش؟ ليس الصهاينة عدواً إلا في أكاذيب السلطة أما أعداؤها الحقيقيون فهم اثنان: شعب”ها” في الداخل، والعراق في الخارج. الأول لأنه ضد النظام، والثاني لأن تحالفه مع الأول واستخدام قوة الردع التي يمتلكها من شأنهما إطاحة الأسدية. ليس للنظام أي عدو غيرهما.

بتطييف الجيش وإحكام قبضة المخابرات على الحياة العامة، وإمساك الأسد بأقدار “أبنائه” المواطنين، إناثاً وذكوراً، وبدوره موزّع أرزاق يحدّد مراتب السوريين الاجتماعية، ومداخيلهم، وأنماط عيشهم، وما يأمرهم به وينهاهم عنهم، وباستسلامه خلال هذه الفترة أمام إسرائيل، وقيامه بحراسة المشرق وتغييب العراق بمساعدة إيران، وبخضوعه ومنطقة نفوذه لهيمنة الغرب الاستراتيجية، لم يعد هناك أي خطر على الأسد ونظامه “الوطني/ التقدمي” غير شعب سورية الذي أمر أمنه بكتم أنفاسه، ودرّب جيشه على سحقه، أن يحاول القيام بتمرّدٍ ما، رأت قيادته جذوره الكامنة في أوساط مثقفة ومعارضة، ولدى بعض رجال الأعمال والوسط الديني، وكتل المحرومين والمهمشين الكبيرة.

وكان الأسد الأب قد بنى نظامه على معادلة صفرية، أقامها عن سابق عمد وتصميم على تنافٍ وجودي متبادل بين نظامه والشعب، جعل حضور الأول يشترط عبودية الثاني، وحضور الثاني سقوط الأول. قامت هذه المعادلة على رفض أي مبدأ يمتّ بصلة إلى الدولة الحديثة، وخصوصاً مبدأ تخلي مواطنيها عن حقهم في العنف مقابل إخراجه من المجال العام، وتعويضهم عنه بضمانات قانونيةٍ ملزمةٍ ومتبادلة. جرّد حافظ الأسد المواطن السوري من حقه في العنف، وبدل أن يخرجه من الحياة العامة أقامها على ديمومة استخدامه ضد شعبه، إناثاً وذكوراً، وطبّق سياسةً جوهرها استخدام العنف، صلباً ورخواً، ضدّه باعتباره عدو سلطته اللدود الذي يجب إبقاؤه خاضعاً، وأسير مشكلات مستعصية تغمره غمراً، يبقى معها سجين حاجات لا تلبى، ورعب يسكنه، ويحيق به، ويعطله كمواطن وإنسان. بهذا القدر من “الحنكة والحكمة”، احتجز الأسد نسبة مئوية كبيرة من السوريين في السجون، أبرياء كانوا أو مذنبين، بما أن الهدف من سجنهم كان إقناع من هم خارجها بأنهم ليسوا أبرياء، وأن دورهم يمكن أن يأتي في أي وقت، وأن شرط نجاتهم استسلامهم له من دون قيد أو شرط بصفته “عظيم الأمة”، الذي ليس هناك قانون يحميهم من بطشه، وطنياً كان أم دولياً، وأن أجهزة قمعه لا تميز بين مسلح وأعزل، ولن تعاملهم إلا كأعداء سيشنون الحرب على نظامه، بمجرد أن يتراخى معهم، فما أهمية أن يكونوا عزلا، ولم تكون ثمة حماية قانونية تلزمه باحترام حياتهم؟

في ظل عقيدة التنافي المتبادل، صار كل سوري عدواً تتربص السلطة به، وتعرض لحرب استباقية دائمة، لا أسباب لها في تصرّفاته وأفكاره، ولم يعتبر نفسه طرفاً في معادلة “إما نحن أو هم” السلطوية التي جعلته تطبيقاتها يكره حياته، بعد أن صارت ساحة حربٍ تطاول جميع مقومات وجوده، لا سبيل إلى تحاشي أذاها من دون حربٍ يخوضها ضد النظام، لكن حكمته تمنعه من خوضها، لاقتناعه أنه ما أن يتحرّك، حتى يواجهه جيش لن يتردّد في اقتلاعه من الوجود!
أبعد هذا يتساءل العالم إن كان جيش الأسد قد قتل حقاً مواطني خان شيخون بالكيماوي؟

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى