لم نعرف أن دمشق أو سورية برمتها مرت بنكبة بل كانت فلسطين هي صاحبة النكبة وليس في عام 1947 بل في عام 1948 لقد كانت فلسطين صاحبة النكبة الأكبر وهي احتلال اليهود لها لكن سورية أو دمشق كعاصمة سياسية مرت بنكبة مثيرة للجدل هي تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي صاحب الرسالة الأفشل في تاريخ الأمة العربية والإسلامية… حيث كان حزباً قومياً علمانياً عروبياً مضاداً لمشروع العرب ومشروع المسلمين ومشروع المواطنة كذلك.
كان القائد المؤسس كما لقب نفسه “ميشيل عفلق” ابن حي الميدان الدمشقي، وكان مساعده صلاح البيطار أصحاب الفكرة المسروقة من زكي الأرسوزي وطوروها بعد أن رأى الأرسوزي منهم خيانةً بتعاملهم مع الفرنسيين وغيرهم علماً أن الأرسوزي اليساري كان قادماً من فرنسا بعد دراسته الفلسفية هناك، حيث تبنى أفكارهم وحاول تطبيقها للتحرر من التتريك في لواء اسكندرون ثم التحرر داخل سورية لكن عفلق والبيطار استطاعوا تحجيمه بمساعدة المخابرات الفرنسية.
وبعد فترةٍ من الأرسوزي وإعلان حزبهم في الأرياف وخصوصاً جبل العلويين في اللاذقية وجبل العرب في السويداء وبين الإسماعيليين في قرى حماة تعمد عفلق أن يستقدم الأقليات بشكل كبير إضافة للمسيحيين والسنة ليشكل حزباً عقائدياً على فكر عروبي قومي منتهجاً ذلك من الفلسفة الغربية والفرنسية خصوصاً ومن ثم تعرفوا على أكرم الحوراني الذي كان يدعوا للثورة ضد الإقطاعيين في ريف حماة في حزبه العربي الاشتراكي والذي لعب على نفس الوتر الأقلياتي مطلقاً انتفاضة الفلاحين.
استغل عفلق والبيطار الفرصة وتحالفوا مع الحوراني بعد انقلاب أديب الشيشكلي الذي أخذ يكمم الأفواه ويعتقل معارضيه فهرب ثلاثتهم عبر الجبال إلى لبنان واجتمعوا في حزب جديد على الساحة السورية ليكون ” حزب البعث العربي الاشتراكي لتقوية الجبهة المعارضة للشيشكلي والتي قادت إلى إسقاطه وتسليم السلطة طواعية للمدنيين في أول حادثة وآخرها في تاريخ سوريا الحديث، إذ كانت الكتلة الوطنية وحزب الشعب والتي ضمت شخصيات معروفة ومن طبقة ارستقراطية هي المسيطرة وجمعيات إسلامية ذات حضور أقل؛ منها جماعة الإخوان المسلمين بزعامة مصطفى السباعي ومحمد المبارك.
كان للحوراني دور كبير ومهم في الحزب فيما بعد وفي إسقاط الوحدة بين سورية ومصر حيث كان نائباً لجمال عبد الناصر قبل أن يستقيل مع بعض الوزراء السوريين.
كان عفلق يلقي شعارات مسروقة من فلاسفة ومفكرين غربيين (هيردر وماركس وهيجل وهوبز ) ويقلب أقوالهم بما يتناسب وهواه فالحزب في نظر عفلق مهمته أن يشق الدرب لا أن يعبده لسالكيه، فالمهم أن تعلن أهدافاً تحسن اختيارها وتنادي بها، وتحولها إلى شعارات يسهل على الجماهير حفظها وترديدها والمناداة بها مثل “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” “الطليعة” “البعث” “الأصالة” “قدر الأمة” “الموضوعية” “المرحلة التاريخية” “اللحظة التاريخية” “الوحدة” “الحرية” “الاشتراكية” “المؤامرات الاستعمارية” “العوامل السلبية” “الثورة” “إجهاض الثورة” “العنف الثوري” “الطهر الثوري” العهر الثوري” وتأخذ خطابات وأحاديث عفلق وتلامذته توكيدات على كل ما يطرحه الحزب وكأنها أركان إيمانية متلازمة “فلا بد من الوحدة ولا بد من الحرية ولا بد من الاشتراكية” وكل هذه “اللابدات” غير قابلة للتعليل ولا للتحليل ولا للمناقشة ولا للتقديم ولا للتأخير.
ومع كثرة أحاديث البعثيين عن الثقافة وضرورتها وتشبيع الأرياف بالثورة على الإقطاع والأرستقراطية ، وبعث الفلاحين من جداول أراضيهم ومحاصيلهم كان الحزب نفسه بدون ثقافة فكوادره لم يتعلموا تعليماً جيداً لأنهم أبناء أرياف ملئت قلوبهم بالضغينة على أبناء المدن بالإضافة لحملة الشهادات، وتلك الشهادات أتت مع السلطة فأعطوا أعضاء الحزب الرتب والكليشات الدراسية وساهموا بتقسيم البلد عقائدياً وثقافياً وسياسياً وعسكرياً عبر شعارات لها أثرها على الفلاح المحروم والدرويش، ودعموا أغلب الانقلابات العسكرية ، وساهموا في الوحدة مع مصر ورضخ الجميع لقرار عبد الناصر بحل الأحزاب السياسية في سوريا وإلغاء الحياة المدنية الناشئة، ومن ثم أفشلوها مجدداً، بعدها لعب الضباط الخمسة لعبة الثامن من آذار فانقلبوا على سلطة ” الضباط الشوام ” التي وإن كانت وليدة ولكنها كانت تشق طريقها للديمقراطية والاستقرار.
لقد كان حزب البعث منذ اليوم الأول فكرة عقيمة، نشأ في بيئة غريبة عنه وعن أفكاره وأطروحاته، وقدم ثقافة تغريب فجة وغير مدروسة، وهز أركان التركيبة المجتمعية السورية بتأليب سكان المدن على بعضهم، ولم يستلم السلطة إلا بالحديد والنار.
وإن اختلف مؤسسوه مع الانقلابيين فيما بعد حتى لاحقهم حافظ الأسد في كل مكان واغتال أغلبهم.
وطن اف ام