د. مدى الفاتح – سوريا: ما وراء الضربة الأمريكية

ما يزال سوق التحليلات والتكهنات مشتعلاً بشأن الضربة الأمريكية الأخيرة على سوريا، ورغم مرور عدد من الأيام على ذلك الحدث الذي فاجأ الكثيرين، إلا أن تلك الأسئلة التي طرحت منذ اللحظات الأولى للخبر ما تزال تبحث عن إجابة.

جاءت الضربة بعد تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فُهم منها أنه يرى أن تنحية الأسد ليست من أولوياته، وهو ما حلله كثيرون باقتراب أمريكي من المعسكر الروسي الإيراني، ما قد يؤدي لتغيير الكثير من الأحداث والحقائق على الأرض، إلا أن الرئيس الأمريكي لم يلبث أن غير وجهة نظره، معلناً أن الولايات المتحدة ستقوم بضرب أهداف سورية على خلفية استخدام السلاح الكيميائي في خان شيخون.

هل جاءت الضربة فعلاً ردا أمريكيا غاضبا على النظام السوري الذي تجاوز كل الحدود؟ ولماذا كل هذا الغضب تحديداً بعد استخدام الغازات الكيميائية؟ أخذا بالاعتبار أنه إذا كان الغرض هو حماية الشعب السوري فإن الموت بهذا السلاح لا يختلف في نتيجته النهائية عن الموت ببرميلٍ متفجر أو قصفٍ أو تحت حصارٍ خانق وجوع، فإذا كان المنطلق إنسانياً فإنه يتوجب حماية المدنيين من كل أشكال تهديد الحياة، وليس على طريقة «استخدم وسيلة أخرى للقتل غير الغازات السامة».

وإذا كانت إنسانية ترامب هي المحرك الفعلي لتلك الضربة، فلماذا جاءت محدودة ودعائية وضعيفة، بشكل جعل الطيران النظامي ينطلق من المطار المقصوف ذاته بعد ساعات، ليتابع استهداف الإرهابيين المفترضين في خان شيخون نفسها؟ لماذا لم تكن أقوى وأكثر تأثيراً وفعالية؟ هل تم إبلاغ روسيا بالفعل بشكل مسبق كما أشيع؟ وإذا كان ذلك قد تم فلماذا أظهرت كل ذلك القدر من الصدمة والغضب؟ أم أنها كانت تتوقع ضربة «أكثر رمزية» مما حدث؟

هناك أمر آخر يتعلق بارتباط هذه الضربة بالداخل الأمريكي، فمن الواضح أن الرئيس ترامب استعاد بعض الشعبية، وهو يظهر لأول مرة بشكل إنساني معلناً أن بلاده لن تسمح باستمرار هذه الأحداث، وأنه يجب القيام بشيء ما لأنه يجب عدم تعريض الأطفال لهذا الألم. تماشت هذه العبارات مع الصدمة التي أحست بها الجماهير داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهم يرون صور القتلى، خاصة الأطفال الذين ماتوا اختناقاً، وكانت فرصة للرئيس ترامب لأن يعلن، بشكل غير مباشر، أن أمريكا استعادت دورها الذي تستحقه على خريطة العالم وأنها لن تسمح باستمرار الفوضى.

مشكلة هذا الموقف الجديد يمكن تلخيصها في نقطتين، الأولى هي أنه غير مقنع ويبدو مفاجئاً لجميع من تابع صعود الرئيس الجديد، فقد كان ترامب أبعد ما يكون عن التعاطف الإنساني وهو يخص اللاجئين السوريين بالمنع من الدخول إلى بلاده، كما أن طائراته ما تزال لا تجد حرجاً في قصف مواقع متكدسة بالمدنيين، كما يحدث حالياً في أكثر من مكان في العراق.

المشكلة الثانية تتعلق بحالة الالتباس التي ولّدتها الضربة، فهي تتناقض مع تصريحات ترامب السابقة حول ضرورة الانكفاء والاهتمام بالشأن الداخلي، فهل تغير ذلك؟ وهل يرغب الرئيس الأمريكي بالعودة مرة أخرى إلى المنطقة؟ رغبة سوف تصطدم لا محالة بروسيا التي باتت تضع يدها على سوريا وتتحكم في أهم منافذها. هذا البعد الداخلي والشخصي المتعلق بالرئيس ترامب لا يمكن التقليل من شأنه، فقد تابعنا وصول الاستياء من الرئيس الذي بدا فاشلاً وبعيداً عن الابتكار إلى قمته، وهو استياء وصل حد التفكير الجدي في الإطاحة به عبر البدء في اتخاذ خطوات قد تقود إلى تشريع قانوني يوسّع من فرص تنحية الرئيس المنتخب في حال إضراره بالمصالح الأمريكية.

وسواء بالنسبة لقراره منع مواطني بعض الدول الإسلامية من الدخول، أو تصريحاته الأخرى المنددة بمشروع أوباما للتأمين الصحي المعروف باسم «أوباما كير»، فقد كان ترامب يمثل خيبة الأمل الحقيقية بالنسبة للملايين.

من جهة أخرى فإن هذه الضربة أعادت إلى الأذهان الموقف الضعيف والمتردد للرئيس السابق أوباما من المسألة السورية وتداعياتها المؤلمة، بما فيها السلاح الكيميائي الذي استخدم بشكل موثق منذ عام 2013. نذكر كيف استسلم حينها الرئيس أوباما بشكل غامض للطرف الروسي، الذي اقترح تحت وطأة الصدمة الدولية، ومن أجل التغطية على الجريمة، أن يتم منح النظام فرصة لتسليم ما بحوزته من سلاح كيميائي. أوباما الذي كان قد اعتبر في تصريح شهير أن استخدام ذلك السلاح الفتاك خط أحمر، لم يلبث أن ابتلع تصريحه مانحاً النظام مهلة طويلة للتخلص من خزانته الكيميائية. المشكلة لم تقتصر على المهلة، بل إن المجتمع الدولي، الذي كان يمثله آنذاك أوباما، لم يقترح أي وسيلة عملية للتفتيش أو للتأكد من انتهاء المخزون الكيميائي، كما لم يقدم أي تهديد جاد لردع النظام عن الوصول لذلك الخط الأحمر مجدداً.

بحسب الأمم المتحدة وغيرها من المصادر المحايدة، فإن النظام لم يتوقف عن استخدام هذا السلاح وإن كان ذلك يتم بشكل محدود. الفرق هو أن هذا الهجوم الأخير على خان شيخون كان الأكبر كما أنه حظي بتغطية إعلامية واسعة جعلت موقف أنصار الأسد في أضعف حالاتهم، لدرجة أن الرئيس الصيني الذي كان في البيت الأبيض حينها، والذي يصنف من ضمن داعمي النظام، لم يستطع أن يمنع ترامب من تنفيذ تلك الضربة.

كان تلك الضربة مهمة للرئيس ترامب الذي ما يزال يعيش أجواء المنافسة مع فريق أوباما، فكأنه أراد أن يقول إنه إذا كان صاحبكم قد قدّم الكثير من العبارات العاطفية وذرف الكثير من الدموع، فإنه لم يجرؤ على القيام بأي تحرك جاد تجاه هذه القضية. إن أهمية هذا التحرك، على محدوديته، تأتي من أنه جاء من قبل رئيس اتهم منذ البداية بأنه حليف لروسيا وصديق لزعيمها بوتين. أما كيف ستتطور الأحداث فسؤال صعب لن تجيب عليه سوى التحركات الأمريكية المقبلة، فهل ستكون هذه الضربة هي البداية والنهاية؟ أم أن الرئيس الأمريكي سوف يقوم بخطوات أكبر لتغيير معادلات القوة في سوريا، خطوات كفرض حظر جوي أو توسيع تعريف مكافحة الإرهاب لتشمل الميليشيات التابعة لطهران أيضاً؟ أو دعم الجيش الحر بشكل فعال أو على الأقل العمل على إزالة كل العقبات الحقيقية في وجه إيصال المساعدات للمتضررين؟

الإجابة على كل ذلك ستتضح على الأكثر خلال بضعة أسابيع وعندها ستقطع الإدارة الأمريكية قول كل خطيب.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى