ليس الاستغراب والدهشة هما فقط ما أثارهما تدمير الصواريخ الأميركية لأحد المطارات العسكرية السورية، بل الكثير من التساؤلات المقلقة والمتناقضة والتي تكشف بكثرتها وتناقضها شدة اختلاف الآراء وردود الأفعال من الحدث، وتالياً عمق تباين الاصطفافات والمواقف من الصراع الدامي وسبل معالجته.
لماذا اختار النظام هذا التوقيت بالذات؟ وما كان دافعه أساساً لاستخدام السلاح الكيماوي في بلدة صغيرة كخان شيخون، ما دام ليس ثمة حاجة ضاغطة عليه اليوم لكسر إرادة بشر منهكين ومحاصرين مثلما كانت الحاجة ماسة في الغوطة الشرقية عندما استخدم ذاك السلاح، خريف 2013، وما دام حليفاه الروسي والإيراني قد مكناه من تعديل توازنات القوى والسيطرة على مدينة حلب وغيرها من المناطق المهمة في ريفي دمشق وحمص؟!.
ألا يتعلق الدافع ببنية سلطوية قمعية راسخة تستهتر بكل شيء ولا تتوانى عن استخدام كل وسائل الفتك والتنكيل ضد ما تعتبره الحاضنة الاجتماعية للمعارضة، تحدوها رغبة عميقة بخوض الصراع ضد الآخر المختلف كصراع تدمير وإفناء؟ أم يعود لسلبية المجتمع الدولي التي عززت شعور النظام بالتحرر من أي التزام، وبأنه قادر على فعل ما يحلو له من دون مساءلة أو عقاب؟ أم لعل الصواب يكمن في ما يذهب إليه خيال أصحاب العقل التآمري، مرة بتحميل المسؤولية لأحد مراكز السلطة الأمنية والذي باتت حياته وامتيازاته مرتبطة بتسعير الصراع، ومرة ثانية، بمصلحة إيرانية تقصدت عبر أعوانها افتعال هذا الخرق لخلق مستجدات تساعدها على استعادة دورها المتراجع أمام تقدم وزن موسكو وتنسيقها مع أنقرة، ومرة ثالثة، بتوهم دور خفي لواشنطن حض على هذا التصعيد لخلط الأوراق واستخدامه ذريعة قوية تعزز تدخلها العسكري، ومرة رابعة، بترتيب من موسكو لاستثمار تداعياته في محاصرة نظام بدأ يراوغ ويتهرب من التزاماته، بما يخضعه أكثر لإرادتها ولما تقرره للمستقبل السوري؟!.
وبينما يتفق الكثيرون على أن البيت الأبيض لن يذهب أبعد من حدود هذه الضربة العسكرية كحركة استعراضية وتأديبية، بدليل أن هدفها المعلن والوحيد كان الرد على استخدام الكيماوي ما يبيح دونه مختلف الأسلحة الفتاكة، ثم ما رشح من إبلاغ موسكو مسبقاً، بمكانها وزمانها، لكنهم يختلفون حول السبب الذي حض ترامب على القيام بها، وسرعة انقلابه على برنامجه الانتخابي الشعبوي والانعزالي، وتجاوز أطرافاً أميركية تتحسب من الانزلاق إلى مستنقع يماثل احتلال العراق.
وإذ يستبعد البعض الدافع الإنساني الذي لا علاقة لترامب العنصري به، يتساءل آخرون، هل دافعه حقاً هو النكاية بأوباما، الذي مسح خطوطه الحمراء غير مرة ووقف مكتوف اليدين تجاه مجازر أشد فظاعة، وكي يظهر، على الضد من سلفه، كمنافح حقيقي عن أرواح الأطفال والضعفاء؟ أم إرضاءً لإسرائيل التي لن تهدأ حتى يسلم النظام مخزونه الكيماوي كاملاً؟ أم يتعلق بسياسة جديدة لواشنطن تجاه المنطقة والصراع السوري وجدت في استخدام الكيماوي عتبة الإقلاع لتحسين وزنها ومحاصرة التفرد الروسي ووضع تصعيدها المتواتر ضد إيران في سياق جدي، ودليلهم إدارتها لمعركة الرقة، وإنزالاتها العسكرية المتكررة لتمكين قوات سورية الديموقراطية من حربها ضد تنظيم داعش؟.
لا نضيف جديداً في تحميل النظام مسؤولية ما حدث وأن إفراطه في العنف واستجرار مختلف أشكال الدعم الخارجي شكلا حافزاً صريحاً لتدخل أميركي عسكري وإن تأخر كثيراً، لكن ثمة من يحذر ساخراً، ألن تساعد مثل هذه الضربة الضعيفة، النظام وحلفاءه على رص صفوفهم وتنشيط شعاراتهم الوطنية ضد العدو الخارجي لتحويل الأنظار عن المأساة الداخلية وتحرير الذات من المسؤولية وتحميل ما جرى ويجري للآخر المعارض المتواطئ والمستعمر الأجنبي، بما في ذلك شحن الدعاية الرسمية عن المؤامرة الكونية التي تتعرض لها البلاد بسبب موقفها المقاوم والممانع، وعن دول إمبريالية لفقت قضية الكيماوي كي تسوغ مشاركتها المباشرة في الصراع حين استشعرت تحول ميزان القوى لمصلحة النظام؟.
نعم ثمة شعور يتنامى من خطورة أن تفضي الضربة العسكرية الأميركية لتصاعد العنف محفوفاً بخشية وحسرة من استمرار استباحة البلاد وتحويلها إلى ساحة مزمنة للتنافس على النفوذ بين مختلف الأطراف الإقليمية والعالمية، لكن لم يستغرب البعض سماع عبارات واضحة من سوريين تظهر تأييدهم للضربة الأميركية ربطاً بصراع مدمر طال، وبمعاناة إنسانية شديدة، وبانسداد الأفق أمام أي حل سياسي أو سبيل يردع آلة القمع ويضع حداً لعنف منفلت؟! ولمَ يستهجنون حين يشعر المتضررون من فتك السلطة، بأنها تتشفى لهم من قهر وظلم فاقا التصور، وتشكل عندهم أمل ورجاء طال انتظارهما، خصوصاً أولئك الموجودين في المدن المحاصرة ومن يكابدون في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة ومن اللاجئين في بلدان الجوار، فضلاً عن سوريين بدأوا يستشعرون خطورة القادم إن تحسنت مواقع النظام وخرج منتصراً مدعوماً بحلفائه؟.
صحيح أن ثمة متشائمين يطالبون بتوخي الحذر من أن تفضي الضربة الأميركية لإجهاض الحل السياسي وتعزيز قوى التطرف والعنف لدى السلطة والمعارضة، ويبالغون بخشيتهم من أن تمنح تداعياتها الجماعات الإسلاموية مزيداً من الفرص للنيل من الآخر المختلف ولوضع أجندتها موضع التنفيذ من دون اعتبار لحقوق الناس وكرماتهم، وصحيح أن ثمة متفائلين يراهنون على العكس على دورها في كسر الاستعصاء القائم عبر إضعاف تشدد النظام وربما تفكيك الدائرة السلطوية الضيقة المتمسكة بخيار العنف والتي ترفض تقديم أية تنازلات، ويتوهمون تبلور قوى من داخل تركيبة السلطة نفسها لها مصلحة بإخماد الصراع، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة أصواتاً كثيرة تتساءل طلباً للخلاص من هذه المقتلة العبثية، ألم يحن الوقت لربط الردع العسكري الخارجي بإرادة أممية تلزم الجميع بوقف العنف وبمعالجة سياسية تحدوها معايير حقوق الإنسان والقواعد الديموقراطية التي تمكن الشعب السوري المنكوب من تقرير مصيره؟.
المصدر : الحياة