لم يكن يتوقع المطالبون بإزاحة بشار الأسد عن سدة الحكم في سورية أن يغالي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رفضه لمناقشة أي اقتراح يعزز فكرة اختيار البديل.
وعندما قورنت أعمال الإبادة الجماعية التي مارسها طوال خمس سنوات بأعمال صدام حسين ومعمر القذافي، دافع عنه بوتين بتحميل المعارضة وزر السلاح الكيماوي الذي استعمل في أكثر من مناسبة.
وعلى أثر تصويب الاتهامات باتجاه ميليشيات المعارضة، عقد المدير التنفيذي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» كينيث روس مؤتمراً صحافياً في مقر الأمم المتحدة، قدم خلاله أدلة جديدة على ضلوع النظام السوري في استخدام أسلحة كيماوية ضد المدنيين أربع مرات على الأقل منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
ومع أن النظام اتُّهِم باستخدام السلاح الكيماوي آخر مرة في «خان شيخون»، إلا أنه استخدمه (161 مرة) في حالات معينة منذ عام 2013. أي منذ وافقت موسكو على إبرام اتفاق عرضه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
حدث كل هذا في وقت لم يعد يشعر سيد النظام بخطر المعارضة. خصوصاً بعدما طمأنه دونالد ترامب بأن رحيله لم يعد أولوية أميركية، وأنه في استطاعته البقاء في الحكم حتى نهاية ولايته في 2021.
يقول المحللون إن كل الفرضيات التي طُرِحَت لتفسير أسباب الهجوم الكيماوي لم تكن مقنعة، ما عدا فرضية واحدة مفادها أن الأسد أراد بلوغ أقصى درجات العنف مع المعارضة كي يثبت أنه مفاوض لا غنى عنه في سورية الغد.
والثابت أن الأسد أراد تذكير بوتين بأن التخلي عن حليفه مقابل السماح له بضم القرم لن يكون عملاً سهلاً. ولقد وصفت دمشق في حينه تغيير موقف الرئيس الروسي بأنه «طعنة في الظهر»، وأن الهجوم الكيماوي لا يستأهل عقاب إزاحة بشار الأسد!
وكان من الطبيعي أن تؤيد طهران غضب دمشق، خصوصاً بعد تفرد أنقرة وموسكو بالحل في «آستانة»، ورغبتهما في تقاسم السلطة مع المعارضة المهزومة عسكرياً.
وهكذا ظهرت مؤشرات التصدع على التحالف الروسي- الإيراني- التركي في سورية.
بوادر هذا التصدع برزت عقب الزيارة التي قام بها لموسكو وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون. وقد تركزت محادثاته مع بوتين على إيجاد بديل آخر تختاره موسكو، لأن الدول الغربية لم تعد قادرة على التعامل مع حاكم استخدم الكيماوي ضد شعبه.
وذكرت الصحف الأميركية أن تيلرسون استعان بحديث زميله البريطاني بوريس جونسون، الذي وصف بشار الأسد بأنه «الإرهابي الأكبر».
وكتب جونسون في صحيفة «صنداي تلغراف» مقالة دعا فيها موسكو إلى فك تحالفها مع نظام مسؤول عن مقتل 310 آلاف شخص، ونزوح أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها، إضافة إلى تدمير هائل في البنية التحتية. كل هذا بسبب تظاهرة سلمية طالبت بالإصلاحات في آذار (مارس) 2011. وبدلاً من فتح حوار مع المضربين وذويهم، واجههم الأسد بالاعتقال والضرب. وكانت حجته إن كل مَنْ يخلّ بالأمن هو «إرهابي».
المهم، أن بوتين قابل اقتراح الوزير الأميركي بعرض سلسلة عوائق إدارية ودستورية، وقال إنه من الصعب تحقيقها قبل الاتفاق مع الأسد والطائفة العلوية والجيش النظامي على مخرج مقبول من كل الأطراف. وإلا، فإن سورية ستتحول سريعاً إلى عراق آخر.
وطلب الرئيس الروسي معاونة الولايات المتحدة على دعم المقترحات التي تبدأ بإقرار دستور يؤسس لانتخابات مباشرة تشرف عليها الأمم المتحدة خلال مدة لا تتعدى الستة أشهر.
ولما سأله الوزير تيلرسون عن احتمال خوض بشار الأسد الانتخابات المقبلة، أجاب بوتين بالإيجاب، لأن البديل في نظره هو «الفوضى». وقال إن الإعداد لمرحلة ملء الفراغ الرئاسي تحتاج إلى فترة انتقالية هادئة… والى إقناع ميليشيات المعارضة ومَن يمولها بضرورة وقف الحرب الأهلية.
الوزير الأميركي اقترح اختيار مجلس انتقالي مؤلف من حزبيين وعسكريين وعلويين ورؤساء عشائر وممثلي أقليات ومذاهب. ويكون هذا المجلس مسؤولاً عن تقطيع المرحلة الانتقالية بانتظار تنفيذ كامل خطة التسوية النهائية.
ومن أجل تطمين الرئيس بشار وعائلته، اقترح أن يُعفى الجميع من الملاحقة القضائية، وأن يُخيَّر في انتقاء مكان سكنه… في طهران، أم في موسكو، أم في أي مكان آخر!
وقبل أن يغادر الوزير الأميركي، حرص بوتين على تذكيره بأن موسكو لن تتخلى عن النظام الذي أسسه حافظ الأسد، وأن البديل سيكون من داخل النظام، حفاظاً على سلامة التحالف الروسي- السوري الذي استمر نصف قرن تقريباً.
بعد فترة قصيرة، زار موسكو وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي التقى الوزير سيرغي لافروف، وأجرى معه محادثات مطولة حول دور إيران ومستقبل الأسد.
وعلى رغم اختلاف المواقف بينهما، إلا أنهما وجدا أرضية مشتركة للتعاون الاقتصادي والأمني، تبدأ بمحاربة «داعش» و «القاعدة»… وتنتهي بإعادة إعمار سورية في ظل نشوء نظام إقليمي جديد.
ولكن الاتفاق على تفعيل دور روسيا في سورية لم يمنع الوزير الجبير من المجاهرة بضرورة تحجيم دور إيران و «حزب الله»، إضافة إلى التخلص من الأعباء السياسية التي يشكلها استمرار بشار الأسد.
ولم يعلق لافروف على هذا الاقتراح المرفوض من قبله، لأن بلاده استعادت حضوراً دائماً في البحر المتوسط، وأمنت بيع أسلحة بمبالغ خيالية عوضت عن العقوبات المفروضة على تدخلها في أوكرانيا.
قبل أن تغادر المستشارة الألمانية أنغيلا مركل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة متوجهة إلى موسكو، صدرت صحيفة «الوطن» السورية بافتتاحية تنبئ عن تحول لافت في سلوك النظام حيال سياسة موسكو.
وتنتقد «الافتتاحية» بقسوة صمت موسكو على الغارات التي قام بها الطيران الإسرائيلي، بهدف تدمير مستودع للأسلحة مرسلة من إيران إلى «حزب الله» في لبنان.
ولقد أثارت الصحيفة تساؤلات المواطنين الذين اتهموا موسكو بعقد صفقة سرية مع إسرائيل تعفيها من التصدي لطائراتها الحربية فوق الأراضي السورية. علماً أن القواعد البحرية والبرية التي سمحت دمشق لموسكو باستخدامها كانت مشروطة بالدفاع عن سيادة البلاد. من هنا كان تهديد النظام السوري بتوجيه صواريخه نحو الطائرات الإسرائيلية في حال اختراقها لأجواء سورية مرة أخرى.
وزير استخبارات إسرائيل «كاتس» أدلى بتصريح لراديو الجيش أكد فيه أن الواقعة التي حدثت في الأجواء السورية تتماشى تماماً مع السياسة التي التزمناها لمنع إيران من تهريب الأسلحة المتطورة إلى «حزب الله» عبر سورية.
ومثل هذه السياسة الثابتة أثارت العديد من الأسئلة المتعلقة بصدقية الموقف الروسي المعلن بالنسبة لشرعية عمل «حزب الله». أي أن موسكو لا توافق على تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية. ولكنها من جهة أخرى تسمح لإسرائيل بحرمان ترسانة «حزب الله» من الأسلحة الصاروخية المتطورة. لهذا وقعت في التناقض، وجعلت السوريين- حكومة وشعباً- يشككون في إخلاصها لدور الرعاية والحماية.
وكل ما أوردته في هذا الصدد، البيان الذي صدر عن الكرملين، وخلاصته «أن من واجب كل الدول تحاشي أي عمل من شأنه تصعيد التوتر في المنطقة واحترام السيادة السورية!».
وحول التهديد السوري لإسرائيل، علق عضو اللجنة الأمنية بيرتس بالقول: «إن إسرائيل لا تخشى من رد سوري على غاراتها، لأنها غارقة في الحرب مع الشعب والمعارضة، ولأنها تعرف أن أي ضربة لإسرائيل ستورطها أكثر فأكثر».
ومن هذا الوضع المتأزم ينطلق السؤال الأهم: وماذا لو جاءت الضربة من «حزب الله»؟
بعد القصف الأميركي على سورية، بدّل الرئيس ترامب موقفه، وطالب الأسد بالرحيل لأن دوره في سورية قد انتهى.
وربما حملت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل مثل هذه الرسالة إلى موسكو بعد زيارتها السعودية وأبو ظبي. خصوصاً أنها جاءت قبل وصول أردوغان إلى الكرملين، وقبل الاتصال الهاتفي الذي أجراه ترامب مع بوتين في شأن المسألة السورية.
واستغلت إسرائيل زيارة الإعلاميين إلى الجنوب بدعوة من «حزب الله»، لتطلب من سفيرها في الأمم المتحدة داني دانون تقديم شكوى إلى مجلس الأمن اتهمت فيه الجيش اللبناني النظامي بتسهيل الجولة.
وقال السفير أيضاً في الشكوى: إن القوة الدولية العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل) أصدرت بياناً بعد الحادث ذكرت فيه أن الجيش اللبناني أبلغها مسبقاً بتوقيت الجولة.
واعتبر السفير أن التصريح يبين بوضوح أن الجيش اللبناني كان على علم مسبق بالجولة، وأن تعاونه مع «حزب الله» مقلق، كونه انتهك القرارين 1701 و1559.
وقد توجه رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الجنوب ليؤكد أن الموقف الرسمي يحترم مقررات مجلس الأمن، وأن التظاهرة الإعلامية لا تعبر عن سياسة الدولة.
المهم، أن رسائل التخويف التي تصل إلى السياسيين والإعلاميين يومياً تتحدث عن احتمال نشوب حرب مفاجئة على جبهة الجولان. ويؤكد مطلقو هذه الإشاعات المقلقة أن إسرائيل المتفائلة بانتصار حرب حزيران (يونيو)، تريد تكرار تجربة الانتصار في الشهر ذاته.
في حين يفضل «حزب الله» أن يكرر تجربة صيف 2006، التي كانت بمثابة انتقام لهزيمة العرب في حرب 1967.
وبانتظار حلول المفاجأة غير المتوقعة، ما زال لبنان يبحث عن صيغة مرضية لقانون الانتخابات. وربما تنقضي المهلة القانونية المحددة بعشرين حزيران، من دون التوصل إلى حل مرضٍ.
عندها قد يضطر الرئيس ميشال عون بموافقة ثلثي مجلس النواب إلى اجتراح مخالفة قانونية- مثلما حدث في انتخاب الرئيس ميشال سليمان- تتمثل في حلّ المجلس.
وبما أن المادة 25 من الدستور تقتضي إجراء انتخابات عامة خلال تسعين يوماً، مستندة إلى القانون المعمول به (الستين)… فإن لبنان لا يمكنه ملء الفراغ، إلا بمخالفة الدستور!
المصدر : الحياة