لم يعد السوريون يعوّلون كثيراً على أرقام الجولات التفاوضية وتزايدها المستمر، سواء التي تعقد في جنيف أو أستانة، أو في أماكن لا يتم الإعلان عنها، وتمرّر فيها القرارات الفعلية التي يعمل كل الأطراف المعنيين في الصراع السوري على ترجمتها عبر الاتفاقات، أو التمهيد لها ضمن معارك التصريحات الإعلامية المتبادلة. ولعل دخول مباحثات “أستانة”، المخصّصة لمناقشة الأوضاع الميدانية والصراع المسلح والإرهاب، جولتها الخامسة، وسط مزيدٍ من التصعيد العسكري في مناطق عديدة في سورية هو أحد تلك التقديمات المتبعة منذ ما يزيد عن خمس سنوات، بدءاً من جولة جنيف 1 في 2012.
وعلى الرغم من قناعة كل الأطراف أنه ما من حلول قادمة قريبة من دون أن تصل كل من الدولتين الكبريين، أي روسيا والولايات المتحدة، إلى تصوّر واضح بشأن الصفقة النهائية لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، وسورية خصوصا، إلا أن ذلك لا يعني أن مباحثات أستانة التي تدعمها روسيا، بالتعاون مع إيران وتركيا، تجري بعيداً كلياً عن إرادة الإدارة الأميركية التي تتّخذ موقع المراقب فيها لغايات كثيرة، منها دفع كل الأطراف إلى مزيدٍ من التورّط في حرب استنزاف لطاقاتها العسكرية والاقتصادية من جهة، ولعلاقات هذه الأطراف الديبلوماسية مع محيطها المحلي والإقليمي والعالمي.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم، أيضاً، إصرار روسيا على عقد جولة جديدة في أستانة، حيث إن دوراً فعلياً لهذه المباحثات تعوّل عليه موسكو في إدارة الصراع، ليصبح أكثر تكيّفاً مع الظرف الدولي، ما يسمح ببدء مشاوراتٍ سياسيةٍ تمهد لتقاسم النفوذ، وفق خطةٍ تقوم على شرعنة الوجود العسكري للأطراف الفاعلة، تحت مسمياتٍ جديدة، منها ما يتم تداوله باسم قوات “مراقبة” أو قوات “ضمان وقف إطلاق النار”، وكل هذا يمكنه أن يقود إلى المرحلة التي يتم الحديث عنها، والمتعلقة بإنشاء “مناطق آمنة” لن تكون من دون المرور فعليا بمرحلة وقف إطلاق النار، والذي يعني مناطق “خفض التصعيد”، وصولاً إلى المناطق الآمنة والعبور باتجاه الحل السياسي الذي تغيب معالمه اليوم عن جنيف، على الرغم من الجولات السبع الماضيات.
وتجتهد الديبلوماسية الروسية في تسويق عملها، بالتأكيد على اتفاق “خفض التصعيد”، ورسم خارطة جديدة لخطوط التماس، والالتزام بها من الطرفين (الأطراف)، نظاماً ومعارضة، وذلك للحؤول دون دخولها معارك جديدة، تلزمها التدخل والإخلال بدورها لمصلحة مساندة النظام السوري، ما يعني فقدان مصداقية دورها دولة ضامنة لوقف إطلاق النار، ليس فقط أمام دولٍ حليفةٍ مشاركة في الاتفاق، مثل تركيا. ولكن لإثبات أن يدها هي العليا في الشأن السوري أمام واشنطن، لزيادة حصتها في أي تفاهماتٍ جديدةٍ بين الدولتين، سواء في الملف السوري، مستقلا، أو بمبادلته بملفاتٍ خارجية، كالعقوبات الأميركية والأوروبية والدرع الصاروخي وأسعار النفط وطريق الغاز.
إلى ذلك، ولإنجاح مهمتها في بلورة اتفاقٍ قابل للتنفيذ، وليس للتهليل الإعلامي، وكسب مزيد من الوقت، على حساب دماء السوريين، لابد لروسيا أن تكون مستعدةً لتنفيذ مطالب مثل: أن تتعهد بسحب (وتجميع) المليشيات الأجنبية عن خط الجبهة، وإفساح المجال فقط لقوات حكومية شرطية، على أن تكون هي القوة التنفيذية في المناطق التابعة للنظام، مع توفير نقاط مراقبة تتبع للقوات الروسية، تكون هي الضامنة لتنفيذ الاتفاق كاملا. كذلك وقف أي طلعات جوية للنظام فوق المناطق غير التابعة لسيطرته، والأهم أن يضمن الاتفاق عدم تجاوز أطراف الصراع خط وقف إطلاق النار والخطوط الأخرى المتفق عليها، أي منع استغلال الاتفاق لكسب النظام، أو أيٍّ من داعميه أراضي جديدة، على حساب التزام فصائل المعارضة بالاتفاق.
من كل ما تقدّم، يمكن استنتاج أن روسيا أمام فرصةٍ حقيقيةٍ قد تمكّنها من العودة إلى واجهة العمل الديبلوماسي من جديد، على الرغم مما ارتكبته من جرائم بحق السوريين، قبل توقيعها على اتفاق مناطق “خفض التصعيد”، وبعده. ومثال ذلك ما يحدث في درعا من معارك، يحلّق فيها طيرانها، إلى جانب طيران النظام، ليسقط ضحاياه، من مدنيين ونساء وأطفال، وصل عددهم إلى حوالي مئة خلال الشهر الماضي، ما أحرج ممثلي الجنوب في مؤتمر أستانة، مع أن هذا لم ولن يمنع من تبقّى من الوفود من المشاركة.
من جهة أخرى، باتت فصائل المعارضة، مع هذا الدور الروسي المتناقض، أمام تساؤلاتٍ كثيرة، منها كيف يمكن أن يكون لها دورها ورأيها في ظل انقساماتها واختلاف أولوياتها، إنْ في خصوص المشاركة في مسار “أستانة” من عدمه؟ أو في خصوص كيفية التعامل مع الدور الروسي متعدّد الوجوه والوظائف؟
المصدر : العربي الجديد