كان العلماء دائمًا يتساءلون عن الكيفية التي تبدو عليها خلايا الدماغ عندما تبدأ في التحدث لبعضها البعض، ووجد باحثون وسيلة لمشاهدة محادثة تحدث ـ بالفعل ـ أمامهم، بدون أية حاجة لفتح الدماغ، أو فتح أي جزء في الجمجمة.
هذه اللمحة عن نظام الاتصالات في الدماغ، يمكن أن يفتح أبوابًا جديدة لتشخيص وعلاج الاضطرابات المختلفة التي تصيب خلايا المخ من «الصرع» إلى «ألزهايمر».
كيف تعمل الخلايا العصبية؟
أن تكون قادرًا على رؤية أين وكيف تعمل خلايا الدماغ، هو أمر بمثابة «الكأس المقدسة في علم الأعصاب»، هذا ما ذكره «هوارد فيديروف»: طبيب الأعصاب في جامعة «جورج تاون» في العاصمة الأمريكية، والذي لم يشارك في هذا البحث، مضيفًا «هذه أداة جديدة محتملة، يمكن أن تقربنا من ذلك».
الخلايا العصبية، التي ليست سوى خلايا أطول قليلًا من عرض شعرة الإنسان، جرى وضعها في الدماغ مثل سلسلة من الطرق السريعة المتشابكة. الإشارات العصبية التي تمر في هذه الخلايا يجب أن تنتقل عبر هذه الطرق السريعة، ولكن يجب أن نعرف أن هناك عائقًا على هذه الطرق السريعة، هذا العائق يعود إلى أن الخلايا العصبية لا تلامس بعضها البعض؛ وبالتالي فالإشارات العصبية لا تنتقل بسلاسة من خلية لخلية.
الخلايا العصبية تتميز بأنها منفصلة عن بعضها البعض، بفجوات صغيرة جدًا، تسمى «نقاط الاشتباك العصبي»، حيث تقفز الرسائل والإشارات العصبية بمساعدة الكهرباء من الخلايا العصبية إلى الخلايا العصبية المجاورة؛ للوصول إلى وجهاتها.
عدد نقاط الاشتباك العصبي الوظيفية التي تطلق وتعمل في منطقة واحدة (وهي مقياس يعرفه العلماء باسم كثافة الاشتباك العصبي) يميل إلى أن يكون وسيلة جيدة لمعرفة مدى صحة الدماغ؛ فكلما ارتفعت كثافة الاشتباك العصبي، فهو يعني أنه تجري عملية إرسال المزيد من الإشارات العصبية بنجاح. وإذا ما كان هناك انقطاع كبيرة في قطاعات واسعة من هذه الطرق السريعة للخلايا العصبية، فإن العديد من الإشارات قد لا تصل إلى وجهاتها؛ وبالتالي تقل كثافة الاشتباك العصبي؛ مما يؤدي إلى اضطرابات مرضية، مثل مرض «هنتنغتون».
ومع ذلك، فإن الطريقة الوحيدة التي كانت متاحة للنظر في كثافة الاشتباك في الدماغ، هو أخذ «خزعة» (تحتاج إلى تدخل جراحي عبر فتحة صغيرة في الجمجمة) من أنسجة المخ غير الحية. وهذا يعني أنه ليس هناك طريقة للباحثين للتحقق من كيفية تقدم أمراض مثل مرض ألزهايمر، وهو ما يمكن أن يعقد أسرار التشخيص والعلاج لهذه الأمراض.
تقنية جديدة
ولتصحيح هذا الأمر، قام فريق من العلماء بجامعة «ييل»، بوضع تقنية جديدة لا تحتاج لتدخل جراحي لعرض الكيفية التي تتحدث بها الخلايا العصبية مع بعضها البعض، هذه التقنية الجديدة قدمها الباحثون في مجلة «علوم الطب» (Science Translational Medicine)، وقد أطلقوا على هذه التقنية اسم «تصوير كثافة التشابك» synaptic density imaging.
وتستخدم هذه التقنية جزيئًا مشعًا، والذي عندما يجري تطبيقه على أنسجة المخ، فإنه يستولي ويلتصق ـ بشكل انتقائي ـ على بعض الأغشية. بعد ذلك يقترن هذا الجزيء المشع مع عملية التصوير المقطعي بالإصدار «البوزيتروني» (PET)، وهو الفحص الذي يقيس الإشعاعات النووية المنبعثة من الجزيء، لتضيء المناطق المختارة من قبل الجزيئات المشعة على صورة الجهاز للعضو قيد الدراسة.
كلما كانت درجة الإضاءة الظاهرة على الجهاز أكبر، فهذا يعني وجود كمية «جلوكوز» (كمقياس للطاقة المستهلكة عبر الخلية) أكثر، أو بعبارة أخرى فهو يعني زيادة كمية الطاقة المستخدمة من قبل تلك الخلايا. وعندما نطبق هذا الأمر على نقاط الاشتباك العصبي، فينبغي أن تكون هذه التقنية قادرة على معرفة ما إذا كانت الرسالة تقفز بنجاح من خلية عصبية إلى أخرى.
قم بمضاعفة هذا الأمر بمقدار 100 تريليون مرة، هي إجمالي عدد نقاط الاشتباك العصبي في الدماغ، ستكون حينها قد حصلت على صورة دقيقة عن كثافة الاشتباك.
كيف أجريت هذه العملية؟
قام فريق الباحثين بحقن الجزيء المشع عبر الوريد في أحد أنواع القردة المسماة «بابون» (baboon)؛ على أمل أن يتمسك الجزيء المشع بالغشاء البروتيني الموجود في الدماغ، والذي يسمى بروتين حويصلة التشابك السكري 2A أو «synaptic vesicle glycoprotein 2A»، ويعرف اختصارًا بـ«SV2A »
وتتعلق جزيئات «SV2A» عادة بالقرب من نهايات الخلايا العصبية، حيث يتم استقبال الرسائل والإشارات العصبية، لذلك سيكون عليها أن تشع نظريًا عند تعرضها لفحص «PET»، في الوقت الذي تقفز فيه رسالة عند نقطة تشابك عصبي بين خليتين. بعد مقارنة صورة مسح الـ«PET» لجزيئات «SV2A» في مخ قرد البابون، بمخ القرد بعد تشريحه، وجد الباحثون أن جزيئات «SV2A» تعطي في الواقع علامة دقيقة لكثافة التشابك العصبي.
الآن، وبعد أن حصل هؤلاء العلماء على علامتهم الدلالية، يمكنهم معرفة ما إذا كانت بعض المناطق من الدماغ تأثرت نتيجة الإصابة ببعض الاضطرابات، مثل «الشلل الرعاش»، وهو عبارة عن رض يتسبب في قلة إطلاق الرسائل من التشابكات العصبية، وبالتالي تظهر هذه المناطق مظلمة في صورة فحص «PET»
ولتأكيد هذه النتائج لدى البشر، استخدم الباحثون عملية تصوير كثافة التشابك؛ للنظر في أدمغة الأشخاص الذين يعانون من صرع الفص الصدغي. ويتسبب هذا المرض في نوبات وارتعاشات؛ نتيجة فقدان إطلاق التشابكات العصبية للإشارات في المنطقة نفسها في كل مرة. في تجربتهم تمكن العلماء بشكل دقيق من توقع المناطق من الدماغ التي ستظهر مظلمة على فحص «PET»، وهي المناطق التي فقدت كثافة التشابك. بمعنى آخر فإن العلماء كانوا يتوقعون من دراستهم لمرض الشلل الرعاش، أي هي المناطق المحتمل أن تكون قلت بها كثافة التشابك العصبي، ثم قاموا بإجراء الفحص على شخص مصاب بهذا المرض؛ ليتبين أن توقعاتهم كانت صحيحة، وهو ما يؤكد كفاءة هذه التقنية.
ويأمل الباحثون أنه يمكن استخدام هذه التقنية لتتبع اضطراب عصبي خلال فترة حياة المريض، لإظهار ـ ليس فقط ـ مكان نقاط الاشتباك العصبي التي تفشل في إطلاق الرسائل والإشارات العصبية بين خليتين، ولكن أيضًا يمكن استخدامها في محاولة لمعرفة ما إذا كانت هناك أدوية يمكنها أن تستعيد وظائف تلك التشابكات.
الباحث «فيديروف» أظهر حماسه الشديد للتقنية الجديدة، لكنه يقول إن هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به؛ لتحديد مدى دقة واتساقية ومنهجية هذه التقنية. وللوصول لهذا الأمر، فإنه يتطلب النظر في الناس في مختلف الفئات العمرية، ومع الظروف الدماغية المتفاوتة، مضيفًا «هذا يمكن أن يكون جيدًا، كأداة أخرى من أدوات التقييم السريرية، التي ستستخدم ضمن صندوق أدوات الفحوصات التقليدية اليومية».
المصدر : وكالات