ما يبدو لنا هو أن صناعة الأغذية تتطور دائمًا لتحسين نوعية طعامنا، وضمان صحة أفضل للإنسان، هذا ما تنبئنا به أيضًا نتائج الدراسات والأبحاث، لكن بين الحين والآخر تظهر دراسات تكشف عكس ذلك، بحيث لفتت النظر مؤخرًا لضرورة البحث وراء الحقائق التي يحاول صناع الأغذية إخفاءها، خاصةً مع ظهور ما يشير إلى قيام شركات صناعة الأغذية نفسها بتمويل الأبحاث، ولسنا بحاجة للقول بأن تمويل صناعات الأغذية لدراسة أو بحث يطعن في مصداقيته إذ تأتي نتائجه -في الأغلب- لصالح هذه الصناعات، فربما تلك الشركات لا تهدف لأن يكون طعامنا صحيًّا بقدر ما تهدف لزيادة أرباحها.
وقد أصبحنا نعتمد على الطعام المعالج الذي يحل محل الطعام الطازج بنسبة متزايدة، وهو ما يحتم معرفتنا بالحقيقة حول طعامنا، الأمر الذي يبدو بعيد المنال حاليًا في ظل السياسة التي تتبعها شركات صناعة الأغذية لحماية مكاسبها، في السطور القادمة نتناول بعض حيل أصحاب صناعات الأغذية التي تم اكتشافها مؤخرًا:
صناعة السكر.. عقودٌ من الخداع
أشارت الدراسة إلى أن مجموعة صناعية تسمى «مؤسسة أبحاث السكر» أرادت بهذا دحض الاتهامات التي أحاطت بالسكر عن دوره المحتمل في الإصابة بأمراض القلب. وقامت المؤسسة بتمويل أبحاث أجراها علماء هارفارد، وخرجت بهذه النتيجة، ونُشرت في جريدة نيو إنجلاند للطب عام 1967 دون إشارة إلى تمويل صناعة السكر لها.
ومع انتشار أمراض الشريان التاجي كانت صناعة السكر تموّل الأبحاث والدراسات التي تؤكد أن تجنب تناول الدهون هو أفضل طريقة لتجنب الإصابة بأمراض القلب، وهكذا نجحت هذه المشروعات التي نُشرت نتائجها في أبرز المجلات، في حسم المعركة العلمية بين السكر، والدهون لصالح السكر على مدى العقود الخمسة الماضية، وعرقلة جهود البشر للحد من انتشار هذه الأمراض.
في ردها على هذه الدراسة أوضحت رابطة السكر أن المجلات الطبية في الستينات لم تكن تطلب الكشف عن مصدر تمويل الأبحاث المنشورة، وأن ذلك بدأ عام 1984.
خدعة الطعام قليل الدسم
مع انتشار السمنة في الدول المتقدمة؛ نتيجة استهلاك الوجبات السريعة، والطعام المصنَّع، وحسم الجدل بتبرئة السكر، واتهام الدهون بالتسبب في زيادة الوزن، كان الحل السريع الذي توصلت إليه شركات صناعات الأغذية هو الطعام قليل أو خالي الدسم الذي غزا رفوف المحلات الكبيرة سريعًا جدًّا، لكن الحقيقة التي أُخفيت هي السعرات الحرارية الكبيرة لهذه الأطعمة، حيث تم الاستعاضة عن الدهون بالمزيد من السكر ليكون مذاق الطعام متقبلًا.
السُّكر مرةً أخرى
لم يقتصر الأمر على الوثيقة التي تناولها المقال، والتي مرّ على نشرها 50 عامًا، ولم يعد المتورطون على قيد الحياة، لكن القضية الأهم كما تشير «ماريون نستله» أستاذة التغذية والصحة العامة بجامعة نيويورك في تعليقٍ لها، هي حقيقة تلاعب شركات صناعة الأغذية حتى يومنا هذا بنتائج الأبحاث لتكون في صالحهم، خاصةً وأن صحيفة النيويورك تايمز حصلت في العام الماضي على رسائل عبر البريد الإلكتروني تكشف عن علاقة دافئة بين شركة كوكاكولا وباحثين يقومون بإجراء أبحاث تخفف من آثار المشروبات المحتوية على السكر على السمنة، وحصلت الأسوشيتدبرس أيضًا على رسائل بريد إلكتروني تكشف عن تمويل صناعة الحلوى لدراسات تؤكد أن الأطفال الذين اعتادوا تناول الحلوى كانت أجسامهم أخفّ وزنًا وأكثر صحةً من أولئك الذين لا يتناولونها. وكانت ماريون قد تناولت هذه الحقائق عن المنافسة الشرسة بين شركات الأغذية في كتابها سياسات الغذاء.
وتسوُّس الأسنان أيضًا
ولم يكن هذا هو التلاعب الوحيد الذي تقوم به صناعة السكر في نتائج الأبحاث المتعلقة بالصحة، فقد كان لـ «لوبي» السكر يد في وضع المبادئ التوجيهية الخاصة بتناول العلاقة بين السكر وتسوس الأسنان، ونجحت في منع الدراسات عن العلاقة بينهما حتى عام 1970 على الأقل.
في عام 2014، صدر تقرير عن مركز العلوم والديمقراطية اتهم جمعية السكر ورابطة مصافي الذرة بالتصدي للأبحاث التي تُظهر الأثر السلبي لاستهلاك السكر المضاف، وتضمنت الطرق التي اتبعتها الجمعية كالتهديد بوقف تمويل منظمة الصحة العالمية، وتمويل باحثين لترويج فكرة أن شراب الذرة والسكر متساويان في التمثيل الغذائي.
ومنذ فترة أصبحت شركات الغذاء تتبع طريقة للدعاية لمنتجاتها عبر توزيع كتيبات توضح فائدتها الصحية التي تكشفها نتائج الأبحاث، غير أن الأمر أصبح يحتاج لمزيدٍ من الحذر، بعد أن قامت إحدى شركات التبغ بتوزيع كتيبات مماثلة تستبعد علاقة التدخين بأمراض القلب والشرايين!
تقول الشركات إنها تترك الحرية للباحثين في نشر نتائج الأبحاث أيًّا كانت، لكن هناك من يشكك في ذلك، خاصةً مع عدم التكافؤ في المنافسة بين الجهات الحكومية، وشركات الأغذية ذات الأموال الطائلة التي يصعب التضحية بها من جانب الباحثين.
تقوم شركات صناعة الأغذية أيضًا برعاية الفعاليات التي تنظمها المؤسسات العلمية في مجال الصحة والتغذية، وتسيطر على توجهات هذه الفعاليات، وتسوق لمنتجاتها، وحتى حين تدعو الأفراد لتبني نظام صحي فإن ذلك يصب في مصلحة تسويق هذه المنتجات أيضًا.
وفي عام 2014 كشفت وكالة الأسوشيتدبرس عن علاقة بين 3 باحثين نشروا أكثر من 24 مقالًا في صحف مختلفة، بتمويل من شركات صناعة الأغذية، تدعم منتجات مختلفة كالعصائر واللحوم المصنعة.
أنماط الحياة الصحية
ورغم وجود ما يشير إلى رابط قوي بين المشروبات المحلاة كالمشروبات الغازية، والسمنة، فإن الشركات المصنعة لها تتبنى سياسة لتحسين صورتها الذهنية؛ إذ تقوم بإنتاج العصائر وزجاجات المياه الغازية لزيادة مبيعاتها، وربط صورة الشركة بأنماط الحياة الصحية، تاركة الخيار للفرد وحده في تحديد نمط الحياة الذي يتبعه، بمعزل عن العوامل الأخرى، ويصبح على عاتق الفرد -دون أي مبادرات مجتمعية- أن يبحث بنفسه عن أضرار أو فوائد المنتج ليقرر بشأنه، يقرر ما إذا كان سيتخلى عن صحته أم لا.
أن يكون المستهلك خبيرًا
توضح «باميلا كيلي» اختصاصية التغذية أن هناك دراسةً لتأكيد فائدة أي شيء، وأن أول ما يجب النظر إليه للحكم على مصداقية أي بحث هو مصدر تمويله، فأصبح من الصعب الوثوق بأي نتيجة، وكأن على كل الناس أن يصبحوا خبراء ليمكنهم الحكم على صحة النتائج.
تتعدد الشواهد إذن التي لا تدع مجالًا كبيرًا للشك في أن الأمر برمته يخضع لتلاعب شركات الغذاء ومصالحها، ويدفع الثمن المستهلكون حول العالم من صحتهم، ولا يبدو وجود أملٍ في الحصول على وجبة صحية سوى في تمويل خارجي لهذه الأبحاث مع ضمان نشر جميع النتائج، والحرص على كشف مصادر تمويل الأبحاث، ويبقى السؤال هو: هل تكفي هذه الحلول النظرية؟ وهل ستجد مكانًا للتنفيذ؟