مقالات

عبد اللطيف السعدون : هل يصير الدم ماءً؟

تعجبك في صحبة كتاب “2000 من الحكم والأمثال الشعبية الكردية”، للباحث خليل كالو، دلالات هذه الحكم والأمثال ومقاصدها التي تعبر عن تجربة مجتمع ثر، مفعم بالدعة والمحبة والجمال، خدمته الطبيعة الجغرافية الممتلئة بالسحر والخضرة، وحمته، دوماً، من نزاعات وسيناريوهات عبثية، حاول آخرون إقحامه فيها، ووجدت في تلك الأمثال والحكم ما يماثل ويتوافق مع تراث مجتمعات شقيقة تجاورت مع الكرد، وقاسمتهم التاريخ والطموحات والعيش المشترك.

ولكم تمنيت، وأنا أراجع الكتاب، أن يكون الزعيم الكردي، مسعود البرزاني، قد استذكر بعض تلك الأمثال والحكم، في زيارته واشنطن، أخيراً، وهو يتأبط ملف “الدولة الكردية المستقلة”. وأحيله، هنا، إلى مثل يقول “إن الدم لا يمكن أن يصير ماءً”، والذي له ما يماثله عندنا، نحن العرب: “لا يمكن للظفر أن يتبرأ من اللحم”، ومهما بلغت القسوة في العلاقة بين الأشقاء، هل يمكن للشقيق الكردي أن يتبرأ من شقيقه الذي يفترش معه أرضاً واحدة، ويلتحفان بسماء واحدة، وإذا كانت الأرض قابلة للقسمة، كما يروج بعضهم، فإن المثل الكردي يقول إن “السماء غير قابلة للقسمة أبداً”.

تمنيت، أيضاً، وأنا أقرأ تهديده بأن هذه هي الفرصة الأخيرة أمام بغداد، وأنه أنجز ترتيبات “الاستفتاء”، وإعلان الاستقلال، بأن يستعيد في ذاكرته المثل الذي يصف “جرح الكلمة” بأنه “أعمق من جرح السيف”، وهو العارف، قبل غيره، أن بلدنا يرزح تحت ظل نظام شرير، صنعه المحتلون، وأن المشكلات التي ينوء بحملها العراقيون لا قبل لهم بمواجهتها إلا وهم متحدون، حيث نصف مساحة البلاد بيد تنظيم “داعش”، وسلطتها موزعة بين قوى ما قبل الدولة: “المرجعية” الشيعية ومليشيات طائفية، وشيوخ قبائل، وكذلك قوى العالم السفلي من مافيات منظمة، وعصابات جريمة، ومجاميع من اللصوص والمزورين، إضافة إلى السلطان السياسي

لمباشر الذي تفرضه حكومة “ولاية الفقيه” في طهران!
“كنا نتمنى ألّا تمتد اليد الكردية إلى دولة مصنفة على أنها “عدوة”، ولا يعترف بها العراق” في ظل وضع مثل هذا، ومع التسليم بحق تقرير المصير، فإن الشك وارد في قدرة أي طرف إقليمي، أو دولي، على ضمان سلامة ونزاهة وديمقراطية استفتاء حر في مسألة مصيرية كهذه. هنا، يصبح ترويج فكرة الانفصال في هذا الظرف الصعب الذي يمر به البلد نوعاً من “الابتزاز”، كنا نتمنى لو نأى الكرد بأنفسهم عنه، خصوصاً وأن الإقليم يتمتع عملياً، اليوم، بميزات تقترب من ميزات “دولة ذات سيادة”، حيث يستحوذ على 17% من موازنة العراق ككل، من دون الخضوع لرقابة على أوجه الصرف، وحيث يمتلك جيشاً منفصلاً (البشمركة) يمول من الموازنة العامة، ولا يخضع للقائد العام للقوات المسلحة، ولا يلتزم بأوامره. أيضاً، تتعامل سلطة الإقليم، في علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول العالم، بقدر كبير من الاستقلالية عن المركز، وحتى من دون إطار قانوني، يتيح لها ذلك، فهي تقوم بتصدير النفط عبر الخط التركي، بموجب اتفاقات خاصة وغير شفافة، وتستحوذ على عائداته، وتقيم علاقات مع دول عديدة، من خلال ممثلين خاصين بها، وبعضهم يشغل مواقع في سفاراتٍ، يُفترض أنها تمثل دولة العراق، مهمتهم ترويج فكرة الانفصال وإقامة الدولة الكردية المستقلة.

ومع أن أكثر من دولة، آخرها هنغاريا، أعربت عن تعاطفها مع المطلب الكردي، إلا أننا نقول إن “الرياح الغربية لا تجلب الأمطار دائماً، وإنما قد تجلب التراب الأحمر”.
وأيضاً، كنا نتمنى ألّا تمتد اليد الكردية إلى دولة مصنفة على أنها “عدوة”، ولا يعترف بها العراق، والمثل يقول: “لا تحك ظهرك بيد غريبة”، لكن تقارير متواترة صدمتنا عن علاقة قديمة وحميمة مع إسرائيل، وبحسب صحيفة “معاريف”، فإن ثمة تبادلاً للخبرات والاستشارات الأمنية والخدمات الاستخبارية بين أربيل وتل أبيب، حيث يعمل عشرات المستشارين الإسرائيليين في الإقليم تحت ستار شركات تجارية دولية، ومن بين هؤلاء داني ياتوم، الرئيس الأسبق لجهاز الموساد. وبحسب “معاريف”، أيضاً، فإن حكومة البرزاني أوفدت، أخيراً، مبعوثاً إلى تل أبيب، حاملاً رسالة رسمية، تطلب مساعدات عسكرية مباشرة، والتدخل لدى واشنطن، لحثها على دعم استقلال كردستان.

وأخيراً وليس آخراً، ومرة أخرى مع التسليم بحق تقرير المصير، فإن خطوة الاستقلال في زماننا هذا قد لا تجيء بما يأمله القادة الكرد منها، وهم يعرفون ما يردده مواطنوهم إن “الطائر الذكي في موسم العواصف لا يفكر في أن يطير وحده”.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى