أخيراً، وبعد أن ضاق الفضاء السوري (والإقليمي) بجميع أنواع المقاتلات الحربية، الأميركية والروسية والفرنسية والبريطانية والأسترالية والكندية و… التي تصب، منذ أكثر من سنة، نيرانها ودمارها، وتجرب قنابلها الفتاكة في الشعب السوري، وعلى الأرض السورية من دون تمييز، باستثناء جيش نظام بشار الأسد، المفترض أن الثورة السورية اندلعت للتخلص من بطشه واستبداده و”ممانعته”، ها هو مجلس الأمن الدولي يخطو خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، أي تعبيد الطريق لفرض حل سياسي للأزمة التي حصدت، حتى اليوم، أكثر من 250 ألف سوري، وشرّدت الملايين منهم، في سابقة لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
وبطبيعة الحال، لم يكن ممكناً التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2254 بالإجماع من دون موافقة الدول (الكبرى) نفسها التي تحشد بوارجها وطائراتها وصواريخها في المتوسط، وفوق الأجواء السورية (والعراقية). وقد عبّرت هذه الدول في مقدمة القرار عن “قلقها البالغ من استمرار آلام الشعب السوري، والوضع الإنساني المتدهور، والعواقب الخطيرة للإرهاب، وتأثير الأزمة على استقرار المنطقة وأبعد منها، وارتفاع عدد الإرهابيين (…)”.
وهذه كلها عوامل خطيرة ساهمت في تأجيجها وتفاقمها الدول نفسها التي غضت الطرف عن ممارسات نظام دموي، لم يتوان عن قصف شعبه بالبراميل المتفجرة وقتله بالسلاح الكيماوي وتهجيره بالملايين، وتهربت من تحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية تجاه شعبٍ انتفض، منذ نحو خمس سنوات، من أجل حريته وكرامته. والأنكى أن القرار يعبر عن قلق مجلس الأمن من تأثير الأزمة على “الاستقرار في المنطقة وأبعد منها”، في حين أن “الاستقرار” في هذه المنطقة، وفي “الأبعد منها”، أي أوروبا والغرب، قد تُرك لنظام الملالي في إيران ولبعض الأنظمة العربية المتهالكة والموغلة في قمع حرية شعوبها، ولتنظيم “داعش” وحش الإرهاب الكاسر الذي ولد من رحمها.
أما وقد حزمت هذه الدول أمرها، بعد أن أصبحت متورطة، في شكل مباشر أو غير مباشر، في الأوحال السورية، فإن الخطة تقضي بإطلاق مفاوضاتٍ بين ممثلي المعارضة والنظام في يناير/كانون ثاني المقبل، والعمل على فرض وقف إطلاق النار، وإطلاق بالتالي مسار سياسي بإشراف الأمم المتحدة، لتشكيل هيئة حكم انتقالية ذات مصداقية وممثلة للجميع، والسعي إلى صياغة دستور سوري جديد، في غضون ستة أشهر، تجري بعدها على أساسه انتخابات حرة خلال ثمانية عشر شهراً.
لكن هذه الخطة التي تنطلق من بنود مؤتمر جنيف 1 (30 يونيو/حزيران 2012)، الذي تحول إلى قرار في مجلس الأمن في أكتوبر/تشرين أول 2013، يثير مجموعة تساؤلات وملاحظات وشكوك حول مدى استعداد مختلف الأطراف المعنية بالأزمة لتطبيقه، والقدرة على وضعه موضع التنفيذ. وأول هذه الأسئلة التي تطرح نفسها عدم تحديد موعد لرحيل بشار الأسد، أو حتى الإشارة إلى مصيره، فبعد أن كانت الدول الغربية، وتحديداً فرنسا والولايات المتحدة، تصر على رحيله، ورفض أي دور له في المرحلة الانتقالية، ها هي، اليوم، تصرف النظر عن هذا الشرط، بعد الهجمات الدموية التي تعرّضت لها فرنسا في أكتوبر/تشرين أول الماضي، وبدء نوع من التنسيق السياسي والعسكري والاستخباراتي بين باريس وموسكو، فيما يبدو موقف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خجولاً في مطالبته برحيل الأسد، ومن باب رفع العتب.
فيما تصر إيران على التمسك به، وتسعى روسيا إلى إبقائه أطول فترة ممكنة، ورقة قابلة للتفاوض. ويقابل هذا التوجه إعلان المعارضة السورية، على لسان منسق عام الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، رفضها الدخول في عملية تفاوض مع النظام، إلا على أساس مبادئ جنيف1 وقرارات الشرعية الدولية التي تنص على مرحلة انتقالية من دون الأسد، وتأسيس هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات.
ثم ماذا عن الآليات الكفيلة بتطبيق هذه الخطة على الأرض، وخصوصاً ما يتعلق بمسألة فرض وقف إطلاق النار الذي يؤكد القرار أنه “لن يطبق على الأعمال الهجومية أو الدفاعية ضد “داعش” أو جبهة النصرة” ويطلب مجلس الأمن، في المقابل، من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة “القضاء على الملاذ الذي أقامته هذه التنظيمات على جزء كبير من الأراضي السورية”. إذ كيف يمكن تطبيق وقف إطلاق النار بين تشكيلات المعارضة المسلحة وقوات النظام، وفي الوقت نفسه، استمرار القتال والتصدي للتنظيمات الإسلامية المتطرفة، وخصوصاً في محافظات ومناطق يتداخل فيها الوجود، وتتشابك فيها المعارك بين الأطراف المتنازعة. فمن سيشرف، بالتالي، على عملية وقف إطلاق النار، ويضمن تطبيقه، لكي يتم الدفع بالمسار السياسي للمرحلة الانتقالية.
يلتقي قرار مجلس الأمن 2254، إلى حد كبير، مع ما جاء في بنود مؤتمر جنيف1 الذي بقي عملياً حبراً على ورق، نتيجة الخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا حول دور الأسد الذي كانت موسكو تراهن، في البداية، على قدرته على سحق الانتفاضة، وتعتبر أنه ورقتها الرابحة لتعويض خسارة إخراجها من ليبيا، وبالتالي، تثبيت أقدامها في الشرق الأوسط. وهذا كان في منتصف 2012، قبل أن تنفجر، بعد سنتين، الأزمة في أوكرانيا وتتورط روسيا عسكرياً في القرم، وتستجلب عليها عقوبات اقتصادية قاسية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وأمام تفاقم الوضع على الجبهتين، وقبل أن يكتوي بنار الإرهاب “التكفيري”، قرّر بوتين القيام بعملية هروب إلى الأمام، والتدخل مباشرة في الحرب السورية، مستفيداً من حال التردد والانكفاء التي تتخبط بها الإدارة الأميركية في سياستها تجاه أزمة سورية والمنطقة، وحالماً باستعادة أمجاد روسيا القيصرية. وما يجعل، اليوم، إمكانية احتمال تطبيق الخطة التي أطلقها القرار 2254 هو، على الأرجح، سعي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى لعب ورقة المقايضة بين التخلي عن الأسد وإطلاق يده في القرم، ورفع العقوبات عن روسيا، وما يسمح له، بالتالي، الانسحاب من سورية، قبل أن يتحول تدخله العسكري الذي مضى عليه نحو أربعة أشهر، من دون تحقيق إنجازات حاسمة على الأرض، إلى ورطة، وهو الذي كان قد قطع وعداً على نفسه، عندما أرسل مقاتلاته إلى سورية، في سبتمبر/أيلول الماضي، بحسم الوضع خلال ثلاثة أشهر.
وربما لهذه الأسباب، اتفقت واشنطن وموسكو على إبقاء مصير الأسد غير واضح في بنود القرار، ومادة للتفاوض في مرحلة لاحقة، كي يختبر كل منهما مدى جدية الطرف الآخر وتعاونه. هذا إذا لم تسع طهران إلى تخريب التفاهم-التواطؤ بين الطرفين!
المصدر : العربي الجديد