منذ نهاية التاريخ التي بشّر بها الأكاديمي الأميركي فرانسيس فوكوياما، مع إنتهاء الحرب الباردة، وإعلان الرئيس السابق بيل كلينتون القرن الماضي “قرناً أميركياً”، دأب الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً على وعظ دول العالم حول قواعد الإعلام الحر، وضرورة أن تتبناه الدول كشرط لاستقرارها ورفاه مجتمعاتها.
وفي الولايات المتحدة، يتسابق الكتّاب على نشر مقالاتهم في صفحات الرأي في الصحف الأميركية مثل “نيويورك تايمز”، و”واشنطن بوست”، و”وال ستريت جورنال”. هذه المقالات، التي ينشرها “كتاب زوّار”، غالباً ما تلقى رواجاً لدى الأميركيين، فتشير إليها المحطات التلفزيونية، وتناقش مضمونها في الغالب باستضافة مؤلفيها. وكذلك تفعل محطات الراديو، فتصل أفكار وجهة نظر المقالة الواحدة إلى عشرات الملايين من الأميركيين.
لذا، تحولت عملية نشر هذه المقالات إلى عملية تنافسية، تتسابق للفوز بها الحكومات، ودور النشر، وشركات اللوبي، ومراكز الأبحاث، وكبار الأكاديميين والعاملين في مراكز الأبحاث. وهو ما دفع هذه الصحف إلى تبني سياسات نشر تسمح بتنظيم هذه العملية غير الموضوعية بطبيعتها.
الشرط الأول؛ لمقالات رأي الزوّار، هو أن يكون الرأي مخالفاً، في الغالب، للرأي الذي تتبناه الصحيفة في افتتاحياتها، وهو ما منحها اسم “op-ed”، وهو تلخيص “newspaper page opposite the editorial page”، أي مخالف للافتتاحية.
الشرط الثاني؛ أن يعكس المقال تجربة شخصية، مثلاً عندما نشرت “واشنطن بوست” مقالة عن “أحرار الشام” بتوقيع الناطق باسم التنظيم لبيب النحاس، تحدث فيها عن طبيعة الفصيل وأهدافه. مثال آخر هو أن ينشر الرئيس الأميركي باراك أوباما، مقالة رأي زائر، يقدم فيها وجهة نظره حول ضرورة تبني قوانين أكثر صرامة لضبط السلاح الفردي.
الشرط الثالث؛ أن لا تتضمن المقالة هجوماً ضد خصوم، إذ أن رأي هؤلاء الخصوم غائب عن المقالة.
الشرط الرابع؛ أن ينقضي عام قبل نشر مقالة ثانية للكاتب الزائر نفسه.
على أنه منذ اندلاع الأزمة بين السعودية وإيران، وقطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، تحولت صحيفة “نيويورك تايمز”، الأوسع انتشاراً في الولايات المتحدة، إلى مطبوعة تسابق جريدة “كيهان” الإيرانية -يرأس تحريرها حسين شريعتمداري، أقرب الصحافيين إلى مرشد الثورة علي خامنئي- في تبنيها وجهة نظر النظام الإيراني.
ومنذ اندلاع الأزمة السعودية-الإيرانية، نشرت “نيويويرك تايمز” افتتاحية هاجمت فيها الإعدامات السعودية، ووصفتها بالبربرية، ونشرت في صفحة مقالات الرأي، المفروض أن تكون مخالفة لرأي افتتاحيتها، مقالة هجومية أخرى ضد الرياض بعنوان “لعبة السعودية الطائفية الخطيرة”. ثم قام مراسل “نيويورك تايمز” في “البيت الأبيض” دايفيد سانغر، بتدبيج مقالة حمّل فيها السعودية مسؤولية توتر المنطقة، واحتمال انفراط عقد المفاوضات السورية المقررة في جنيف.
أما في صفحة “مساحة للنقاش”، التي يفترض أن تقدم وجهتي نظر متضاربتين، قدمت “نيويورك تايمز” أربعة مقالات بقلم الباحثة الإيرانية الموالية للنظام الإيراني هالة أصفندياري، والمعارض السعودي علي الأحمد، والفلسطيني الذي سبق طرده من الخليج إياد بغدادي. المقالة الرابعة، وكانت الأقل عداءً تجاه المملكة، جاءت بقلم مسؤول أوباما السابق في الملف الإيراني دنيس روس.
ومع انحسار الحديث عن الأزمة السعودية-الأميركية في الإعلام الأميركي، بدت “نيويورك تايمز” وكأنها لم تفرغ ما في جعبتها من عداء للرياض، فكتب، الإثنين، وزير خارجية إيران جواد ظريف، مقالة بعنوان “تطرف السعودية الأهوج”.
طبعاً، لم تراعِ “نيويورك تايمز” الشروط المعروفة للكتبة الزائرين، إذ لا يجوز أن يكتب وزير إيراني عن السعودية، لأنه يفترض أن يقدم رأي بلاده في قضايا إيرانية فقط، من دون الهجوم ضد خصوم لا رأي لهم في سطور المقال.
كذلك خرقت “نيويويرك تايمز” شرطاً آخر يتعلق بالمهلة الزمنية للكاتب، إذ بالكاد مضت تسعة شهور، على نشر ظريف في الصحيفة ذاتها، مقالة رأي بعنوان “رسالة من إيران” حاول فيها، قبل توقيع الاتفاق النووي في فيينا، تسويق تسوية إقليمية بعنوان “الخليج الفارسي الأوسع”، الذي يتضمن بحسب ظريف، اليمن وساحل المتوسط.
ثم أن مقالات رأي الزوار في الصحف الأميركية عادة ما تخضع لفحص وتدقيق من المحررين، فيما تبدو مقالة ظريف ضد السعودية وكأنها لم تخضع لأي تحرير، إذ أنه يضع في خانة “التطرف” ما يسميه “الإهمال السعودي في إدارة الحج إلى مكة”، التي وقعت في آخر مواسمها حادثة تدافع أدت إلى مقتل إيرانيين.
موقف ظريف من السعودية معروف. ولكن أن تخرق “نيويورك تايمز”، المعروفة بقربها من إدارة أوباما، مجموعة من القواعد المعروفة، لنشر هذا النوع من مقالات الرأي، يظهر لا كراهية ظريف للسعودية، بل حقد “نيويورك تايمز” وعدداً من الأميركيين تجاه الرياض. وهو حقد لا يليق بمن دأب على تلقين البشر دروساً في موضوعية الإعلام.
المصدر : المدن