قبيل انعقاد مؤتمر ميونيخ لـ»بحث الأزمة السورية وسبل إعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات»، حسب التوصيف الأنعم للقاء 17 بلداً أعضاء في ما يُسمّى «المجموعة الدولية لدعم سوريا»؛ جرى تراشق لفظي غير معهود بين ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، من جهة؛ والجنرال إيغور كونوشنكوف، الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، من جهة ثانية.
ولا تقتصر الطرافة على تباين المقام بين طرفَيْ السجال، إذْ ليس من اللائق أن يردّ «ناطق» على «أمين عام»، وتوجّب أن يتولى الردّ الروسي وزير الخارجية او وزير الدفاع على الأقلّ؛ بل ثمة ما هو طريف في طبيعة المفردات التي استخدمها الطرفان، سواء بسواء.
قال ستولتنبرغ إنّ «الضربات الجوية الروسية المكثفة التي تستهدف في الأساس جماعات المعارضة في سوريا تقوض جهود التوصل لحل سياسي للصراع»، وأضاف: «تنامي الوجود الروسي والنشاط الجوي في سوريا يسبب أيضا زيادة التوترات وانتهاكات للمجال الجوي التركي، انتهاكات لأجواء الحلف، هذا يثير مخاطر». ردّ الجنرال كونوشنكوف كان لاذعاً وغاضباً وساخراً في آن: «أردنا أن نذكر السيد ستولتنبرغ أنّ عملية القوات الجوية الفضائية الروسية لم تكن سببا للأزمة في سوريا، بل الأنشطة المتهوّرة لدول حلف شمال الأطلسي»؛ وأيضاً: «في ما يتعلق بمنطق ستولتنبرغ حول تفاقم التوتر في منطقة الشرق الأوسط بسبب التواجد الروسي في سوريا، فهذه حماقة»؛ وأخيراً: «إذا كان هناك من يتوتر بسبب عمليات القوات الجوية الفضائية الروسية فهم الإرهابيون. فلماذا يتوتر البعض في دول الناتو أسوة بالإرهابيين، هذا السؤال موجه لستولتنبرغ نفسه».
وليس خافياً مقدار البغضاء التي يكنها جنرالات روسيا لأركان الحلف الأطلسي، إنْ لم يكن بسبب التنافس التاريخي الذي يضرب بجذوره في عقود الحرب الباردة، فعلى الأقلّ لأنّ 12 دولة عضواً في الناتو الراهن، تسرّبت إليه من (رميم) حلف وارسو المنحلّ. ما هو لافت، إلى هذا، وطريف أيضاً، هو مقدار انسجام الإدارة الأمريكية مع الخيارات العسكرية الروسية في سوريا، ودرجة التفاهم العالية حول التواطؤ المعلَن بصددها؛ الأمر الذي يجعل توبيخ الجنرال الروسي للأمين العام الأطلسي بمثابة تذكير للأخير بهذه الحقيقة البسيطة: إذا كانت الولايات المتحدة ـ القوّة الكونية العظمى، والأعظم داخل الصفّ الأطلسي ـ غير غاضبة إلى هذا الحدّ إزاء الضربات الروسية في سوريا، فلماذا يدسّ ستولتنبرغ أنفه هنا، ويرتكب «حماقة»؟
من جانب آخر، إذا كان الأمين العام للحلف، ناطقاً باسم أعضائه كافة، قد اعتبر أنّ «الخطر المشترك» الذي تواجهه البشرية اليوم، والحلف في عدادها بالطبع، بات منحصراً في «داعش»؛ أليس من واجبه أن يرحّب بالضربات الروسية ضدّ هذا التنظيم، وأن يصفق لها بحماس أيضاً… وفق ما يساجل الجنرال الروسي؟ أو، وهذه من عند مراقب محايد للسجال مثلاً، لماذا لا يلجأ الحلف إلى ردع تلك الضربات، ما دامت تزيد التوترات، وتثير المخاطر؛ سواء عن طريق قاذفات الحلف التي تسرح وتمرح في الأجواء السورية، أو عن طريق تشجيع تركيا (وليس تثبيط همتها!) في إرباك الطيران الروسي؟
تلك حال تعيد الذاكرة إلى أربع سنوات خلت، حين أطلّ الحلف الأطلسي على الملفّ السوري عبر بوّابة نشر أنظمة صواريخ «باتريوت» على الحدود التركية ـ السورية (الأمر الذي أغضب روسيا، وأغضب إيران أكثر)؛ وذلك للمرّة الثانية، بعد نشر هذه الأنظمة في إسرائيل مطلع تسعينيات القرن الماضي، في أعقاب الغزو العراقي للكويت، وإطلاق عمليات «عاصفة الصحراء»، وتهديد بغداد بإمطار تل أبيب، وسائر إسرائيل، بصواريخ «الحسين». الطبعة التركية من نشر «باتريوت» كانت تبعث، من جانب الناتو، بأربع رسائل، سياسية في الواقع أكثر منها عسكرية؛ خاصة وأنّ الصاروخ «دفاعي» في الجوهر، حسب الرطانة الشائعة في توصيفه.
تلك الرسائل سارت على النحو التالي: 1) أنّ الحلف الأطلسي ليس غائباً عن الملفّ السوري، ويمكن أن ينخرط فيه على أي نحو، في أيّ وقت قريب؛ و2) أنّ تركيا دولة عضو في الحلف، وأمنها من أمن المنظومة الأطلسية بأسرها؛ و3) أنّ الصواريخ لا تُبْلِغ الرسالة إلى نظام بشار الأسد أوّلاً، بل إلى طهران (على خلفية برنامجها النووي، ابتداءً)، ثمّ إلى موسكو (مفاوضات الدرع الصاروخي الأوروبي، المعقدة المتثاقلة، وتباشير انفجار الملف الأوكراني)، ثمّ عراق نوري المالكي يومذاك (في مسائل شتى، لا تبدأ من انحيازات الأخير، الداخلية والإقليمية، ولا تنتهي عند تأزيم الوضع مع إقليم كردستان…)؛ و4) أنّ أنظمة «باتريوت» تحمي، كذلك، جميع حلفاء الأطلسي وأصدقائه في المنطقة، وبعضهم في هذا يستوي في الأهمية مع تركيا ذاتها، إنْ لم يكن يفوقها (كما في مثال إسرائيل، أساساً).
ولأنّ الأطلسي، في تعريفه الأمّ، وكذلك بحكم منطق الأمور الأبسط، حلف عسكري وسياسي معاً؛ وهو، اليوم، توسّع إلى 28 دولة، بينها جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)؛ فإنّ الحلف ليس الوحيد في عالمنا المعاصر، فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو، أساساً ربما، حلف جغرافي ـ حضاري ـ ثقافي، إلى جانب السياسة والأمن والعسكرة. هذا ما كانت الإنسانية قد فهمته من كلام الرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافيل، حين احتضنت بلاده قمّة للحلف الأطلسي لم تكن تشبه سواها من القمم، لأنها ببساطة كانت «قمّة التحوّل».
التحوّل العسكري؟ نعم، ولكن ليس تماماً، أو ليس حصرياً. قال هافيل، في نبرة تحذير لا تخفي هذا الواجب الملحّ: «لا يتوجب على الحلف أن يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية، يخصّ الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة». هل كانت تركيا هي المقصودة بهذا التعريف «المضماري»، الذي لا يفلح تماماً في تنقية كلّ الروائح العنصرية؟ أيٌّ من الدول الجدد (التي تسلمّت وثائق عضويتها في الحلف من الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، يومذاك: إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا)، لم تكن تنطبق عليها معايير المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي؟
وفي مناسبة نشر أنظمة «باتريوت»، لاحظت إليزابيث شيروود، مساعدة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لشؤون أوروبا، أنّ الحلف، في أفغانستان وحدها، ينشر 125 ألف مقاتل، من 28 دولة عضواً في الحلف، و22 دولة صديقة أو شريكة. كذلك ذكّرت شيروود بجوهر موقف أوباما من الأطلسي: أنه «التحالف الأكثر نجاحاً على امتداد التاريخ الإنساني»؛ متباهية ـ ليس دون وجه حقّ، في الواقع ـ أنّ سنة 2012 سجّلت الذكرى الـ15 لتدشين تعاون الحلف الأطلسي مع دولة لم تكن تخطر، البتة، على بال روّاد الحلف المؤسسين: روسيا!
وكان من حقّ شعوب «الربيع العربي»، والشعب السوري في الصدارة، أن تضع نصب العين هذه الحقيقة البسيطة بدورها: أنّ روسيا ليست خصماً للأطلسي في النظام الأمني العالمي الراهن، وأنّ طموح الشعوب إلى الحرية والديمقراطية والكرامة والاستقلال والنهوض… هي آخر ما تدرجه القوى العظمى في حساباتها الكبرى، لكي لا يتحدث المرء عن تواطؤ مضادّ لوأد الانتفاضات الشعبية.
وهكذا، كان جديراً بالجنرال الروسي أن يهتف بالأمين العام الأطلسي: واشنطن وموسكو على وفاق، فلماذا تحشر بروكسيل أنفها؟
المصدر : القدس العربي