لا جدال بأن إدارة الموارد العسكرية وسياسة اقتصاد الحرب الذي يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية يبعث على الاعتقاد بأن التنظيم يستعصي على الهزيمة الكاملة، ويثير إعجاب كافة الخبراء العسكريين، فقد أظهر التنظيم صمودا لا نظير له، ومرونة كبيرة في التأقلم مع ضربات التحالفات الدولية الجوية، وهجمات القوات البرية المتعددة في العراق وسورية، فالتحالف الدولي بقيادة أمريكا الذي تشكل في أيلول/ سبتمبر 2014 لم يتمكن من الاقتراب من عاصمة التنظيم العراقية في الموصل، كما أن التدخل الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015، لم يتمكن من الاقتراب من معقل التنظيم في الرقة، ولم تستطع التحالفات الكونية تحقيق نصر استراتيجي حقيقي.
لقد ظهر جليا أن خسائر تنظيم الدولة لا تقع ضمن السياق الاستراتيجي؛ إذ لا تتمتع المدن الصحراوية كالرمادي وتدمر بأهمية استراتيجية مطلقا، وهي تقع في المجال التكتيكي، كما كشفت عملية إعادة السيطرة على المدينتين عن فشل الاستراتيجية باعتبارها نموذجا إرشاديا لـ “تحرير” مناطق أكثر أهمية على الصعيد الاستراتيجي كالموصل والرقة، فقد برهنت هذه المعارك وغيرها عن صعوبة تحقيق نصر على تنظيم الدولة دون استخدام خيارات الأرض المحروقة ونهج التطهير المكاني، كما فعلت من قبل في تكريت وكوباني، إذ لم تتمكن القوت البرية المحلية رغم حشدها أكثر من 10 آلاف مقاتل مقابل أقل من 150 مقاتل من الدخول إلا عقب تدميرها وتحويلها إلى ركام، ولم تسفر العملية عن أسر أي عنصر من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وعجزت عن عرض صورة مشهدية لجثة أحد مقاتلي التنظيم، الأمر الذي تكرر في مشهد تدمر.
على الرغم من الصورة الإيديولوجية الفجة لمقاتلي تنظيم الدولة، إلا أن التنظيم يتمتع بسلوكية قتالية براغماتية فائقة، ويدير موارده البشرية والمالية وفق استراتيجية تقوم على الاقتصاد في القوة والتقشف في الإنفاق، ويجعل من خسائر القوات المهاجمة فادحة بشريا وماديا ونفسيا، ذلك أن العقيدة القتالية لتنظيم الدولة تقوم على الشهادة من أجل الانتصار، فالخليفة أبو بكر البغدادي يؤكد في كلمة بعنوان “فتربصوا إنا معكم متربصون”، بعد أشهر من الضربات في 26 كانون أول/ ديسمبر 2015، على نهج التنظيم بقوله: “وإن أصابنا القتل وكثرت الجراح وعصفت بنا النوائب وعظمت المصائب فلا عجب أيضا، وهو وعد الله لنا، بل إن الابتلاء قدر محتوم .. فاثبتوا أيها المجاهدون، وما أمامكم إلا إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، ولا خير في عيشنا إن لم نعش تحت حكم الله وفي ظل شرعه”، أما الناطق باسم الخلافة أبو محمّد العدناني في كلمة صوتيّة بعنوان “يا قومنا أجيبوا داعي الله” في 23 حزيران/ يونيو 2015، فيقول: “يا جنود الدولة الإسلامية في كل مكان، اعلموا أن الله لم يعط عهدا للمجاهدين بالنصر في كل مرة، بل إن من سنّته أن جعل الأيام دولا والحرب سجال” ويضيف: “قد يخسر المجاهدون معركة أو معارك، وقد تدور عليهم الدوائر فيخسرون مدنا ومناطق، إلا أنهم لا يهزمون أبدا.. فإن خسرتم أرضا، فستستعيدونها إن شاء الله وزيادة”.
عسكرية تنظيم الدولة ونهجها الاستراتيجي في الصمود والبقاء تتجاوز التجارب التاريخية. فبالمقارنة مع حركات ودول تعرضت لهجمات جوية أقل حدة، وبمشاركة دولية أضعف، كنظام حركة طالبان في أفغانستان ،2001 ودولة البعث في العراق 2003، فقد فقدت طالبان السيطرة على عاصمتها الفعلية قندهار بعد أقل من شهرين من الغارات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وضربات قوات المعارضة الموالية للتحالف، أما دولة البعث فقد فقدت السيطرة على العاصمة بغداد بعد أقل من شهر ونصف من الغزو الأنجلوأمريكي، على الرغم من توافر عناصر تعدّ أساسية في الصمود كوعورة الجغرافيا وتعقيدات الطبوغرافيا، ووجود الحواضن الشعبية.
الاستراتيجية العسكرية لتنظيم “الدولة الإسلامية” كانت شديدة البراغماتية بتأسيس نواة خلافة إسلامية تمتد من حلب إلى الموصل، وتقوم على البقاء والصمود في وجه التحالف الكوني واستنزافه ماديا ومعنويا، ثم التمدد وفق استراتيجية ديناميكية مدروسة وتكتيكات مركبة محسوبة، فقد برهن التنظيم على أن تحركاته تتبع تخطيطا مركزيا يستند إلى بناء هيكلي متين، وبنية إيديولوجية صلبة، حيث عمل التنظيم مبكرا على تطوير مؤسسات بيروقراطية صارمة، وأجهزة سياسية عسكرية مترابطة، فهو يعمل كمنظمة مركزية ذات إيديولوجية دينية شمولية تهدف إلى السيطرة والتوسع، ويقدم نفسه هوياتيا كممثل لإسلام سني ممتهن يتعرض لخطر التمدد الشيعي في المنطقة، كما يقدم نفسه مناضلا ضد الإمبريالية والدكتاتورية.
أحد الإشكالات المعقدة في مواجهة تنظيم الدولة عدم اعتماده على قيادات محددة، إذ يبدو التنظيم كقوة أمنية استخبارية عسكرية شرعية مركبة تعمل على خدمة المنظمة وقائدها كائنا من كان، حيث تحل قيادات جديدة مكان قيادات سابقة بصمت كآلة متقنة، فبحسب أبو محمّد العدناني في كلمة صوتيّة بعنوان “قل للذين كفروا ستغلبون” في 13 تشرين أول/ أكتوبر 2015، فإن “من يلتحق بصفوف الدولة يجذبه ذلك النور، ويثبته المنهج الراسخ الذي نهجه قادة الدولة وحمله جنودها في الصدور، حتى غدا ذلك المنهج صمام الأمان، فمن تصدر للقيادة دونه رفضه جنود الدولة وانفضوا من حوله واستبدلوه كائنا من كان”.
لقد برهن تنظيم الدولة على صواب ما قاله العدناني والذي جاء تعقيبا على مقتل قائد المجلس العسكري حاجي معتز فاضل أحمد عبد الله الحيالي المعروف بأبي مسلم التركماني، وكان قبله القائد العسكري حجي بكر، وهو سمير عبد محمد الخليفاوي، ثم شغل المنصب بعد مقتله في سورية في كانون ثاني/ يناير 2014 أبو عبدالرحمن البيلاوي، وهو عدنان أسماعيل البيلاوي، الذي قتل في 4حزيران/ يونيو 2014، إذ ينقسم المجلس العسكري إلى هيئة الأركان وقوات الاقتحام، والاستشهاديين، وقوات الدعم اللوجستي، وقوات القنص، وقوات التفخيخ، ويقوم المجلس بكافة الوظائف والمهمات العسكرية، كالتخطيط الاستراتيجي، وإدارة المعارك، وتجهيز الغزوات، وعمليات الإشراف والمراقبة والتقويم لعمل الأمراء العسكريين، بالإضافة إلى تولي وإدارة شؤون التسليح والغنائم العسكرية، وقد طور المجلس نمطا من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات، وهو في كل الأحوال يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق القوات المهاجمة.
لا تزال التكتيكات العسكرية للدولة الإسلامية تتحدى المبادئ التقليدية التي وضعها “ماوتسي تونغ” و”تشي غيفارا” وغيرهم بشأن الحروب غير المتكافئة، فإن تصرفات الحركة تكشف في الواقع عن فهم متطور لتكتيكات القتال غير المتكافئ، إذ يضع “ماو” ثلاث مراحل للحرب الثورية: المرحلة الأولى يكون تركيز المتمردين على التعبئة الشعبية مع اغتيالات للأفراد الرئيسيين للجانب الحكومي، في المرحلة التالية يتم تصعيد حرب العصابات مع تكتيكات الكر والفر التقليدية في مواجهة قوات الأمن، وأخيرا، وبعد أن تكون الحركة قد اكتسبت القوة الكافية وضعف الخصم في المقابل، يخرج المتمردون إلى الحرب التقليدية وينخرطون في معارك ضارية مع القوات الحكومية، مع الهدف النهائي المتمثل في إلحاق هزيمة ساحقة بهم والاستيلاء على السلطة، فقد تكيفت “الدولة الإسلامية” سريعا في مواجهة الضربات الجوية للقوات الأمريكية وتجنبت نشر تشكيلات كبيرة من الوحدات المدرعة، وفضلا عن ذلك، استخدمت تكتيكات المناورة بالوحدات الصغيرة مستغلة بمهارة الفرص من أجل التغطية والتخفي، كما استخدم التنظيم مجموعة من الهجمات المتنوعة والمفاجئة للإجهاز على قوات تتفوق عليه عدديا في مناسبات عديدة عاكسا دراية عسكرية كبيرة تنافي الاعتقاد السائد حول الاستعداد الطائش للمجموعة لتلقي خسائر في صفوفها.
رغم خسائر تنظيم الدولة لمناطق عديدة في الرمادي وتكريت وبيجي وريف الحسكة وبعض بلدات وقرى الرقة وريف حمص وحماة، فإن التنظيم لا يزال متماسكا، وهو قادر على شن هجمات معاكسة واستعادة أو السيطرة على مناطق جديدة، فقد تمكن التنظيم السيطرة على مناطق في محافظة حلب السورية وعلى أجزاء من محافظة صلاح الدين العراقية، وأجزاء من محافظات الأنبار ونينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين في العراق، وكذلك أجزاء كبيرة من الرقة والحسكة ودير الزور وحلب وحمص وريف دمشق، وعلى ضاحية الحجر الأسود في دمشق وأجزاء كبيرة من مخيم اليرموك في سوريا.
بحسب الصديق عمر عاشور تفسر التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية للتنظيم قدرته على الصمود والتوسع أكثر مما سبق، فالجمع ما بين تكتيكات “إرهاب المدن” (خاصة الهجوم بطوابير السيارات المفخخة بقيادة انتحاريين، والاستخدام المُكَثَّف لسلاح القناصة والاغتيالات قبل وأثناء الهجوم)، مع أساليب الحروب الثورية التقليدية (خاصة الوحدات المختلطة من العسكريين والمتطوعين المدربين، السريعة الكر والفر، والصغيرة العدد)، بالإضافة إلى التكتيكات النظامية التقليدية (المدفعية الخفيفة والثقيلة والمدرعات والدبابات، وكذلك الأنواع المختلفة من الصواريخ الموجهة وغير الموجهة)؛ قد أثبتت فعالية كبيرة رغم قلة العدد، ورغم أن أسلوب الحرب النظامية التقليدي (وخاصة استخدام المدرعات) قد تم تقويضه إلى حد كبير بفعل الضربات الجوية للتحالف، فإن التنظيم استطاع تجنب المزيد من الخسائر عبر تفريق وإخفاء الأسلحة الثقيلة وبعض العربات المدرعة والدبابات التي نجت من القصف.
خلاصة القول أن تنظيم الدولة الإسلامية يعمل كآلة متكاملة، إذ لا ينفصل الجهاز الإيديولوجي عن الجهاز العسكري، وتعمل منظومته الأمنية على صيانة الجهازين داخليا وخارجيا، من خلال المحافظة على نمط معقد من المركزية واللامركزية بدءا من الولايات ومرورا بالقواطع وصولا إلى المفارز وانتهائها بالأفراد، وإذا كانت قوات التحالف الكوني بدأت هجماتها الجوية على أهداف قطعية يقينية للتنظيم، فقد أصبحت تعتمد على الشك والتخمين، وباتت تفتقر إلى تحديد مصفوفات القتل المسبقة، فالمعلومات الاستخبارية حول قيادات التنظيم باتت متقادمة، ولا تتوافر معلومات دقيقة حول القيادات الحالية، وبهذا تعمل القوات الجوية بلا عيون وآذان، وتقتصر مهماتها على دعم القوات المحلية دون رؤية استراتيجية، ومع نفاذ صبرها قد تلجأ إلى خيار “غروزني”، لكنه خيار في حال تنظيم الدولة شديد الخطورة ومرتفع التكاليف، وهكذا فإن مبدأ الصبر الاستراتيجي من خلال الاقتصاد في القوة يتحول إلى خيار لتنظيم الدولة الإسلامية، بدلا عن كونه خيارا للتحالف الدولي.
المصدر : عربي 21