لم يشهد التاريخ المعاصر إطلاقاً مثيلاً للدمار الذي يشهده التراث الإنساني في كل من العراق وسورية في يومنا هذا.
ويمثّل الدمار المتعمّد الذي يتعرّض له التراث جريمة حرب. حيث أصبح الدمار وسيلة من وسائل الحرب والدعاوى المغرضة.
ففي سورية، تم قصف وحرق ثلثي المدينة القديمة في تدمر. وقد تفشّت عمليّات الإتجار غير المشروع بالقطع الثقافيّة في مواقع «دورا أوربوس» و «أفاميا» لأهداف تجاريّة. وقد وقع بعض المواقع الأثريّة بين نارين: القوّات البريّة من جهة والقوّات الجويّة من جهة أخرى. كما يتم استخدام هذه المواقع كقواعد عسكريّة. وتدمر التي شهدت الفظاعات الهائلة خلال ما يزيد على السنة كانت تنقصها الحماية اللازمة لسنوات طويلة.
وكثيرون هم المسؤولون عن هذه الفوضى الثقافية والإنسانيّة. وتدين اليونسكو بدورها كل الدمار الحاصل بغض النظر عن الجهة التي تسببت به. فإن الضحيّة الأولى لهذا الدمار هي الشعب السوري. وعلى رغم كل ما يحدث، يبقى الشعب السوري القلب النابض بالحقيقة والكرامة والمعنى الذي تحمله القيم العالميّة المتجسّدة في مواقعه التراثيّة.
وأُعرب دائماً عن إيماني بمهمات المدير العام للآثار والمتاحف في سورية الذي نقل ملايين القطع التاريخيّة إلى مكان آمن وحرص على حماية مواقع التراث كحصن ضد التفكك.
كما أؤمن بأعمال المجتمع المدني السوري والمنظمات المختلفة، مثل رابطة العلوم السياسيّة الأميركيّة والمدارس الأميركيّة للبحوث الشرقية ومؤسسة شيرين ومشروع أرشفة التراث السوري والتراث من أجل السلام وغيرها من الهيئات التي تضع على رأس أولوياتها توثيق تاريخ ومستقبل البلاد وحمايتهما مهما كان الثمن.
واليونسكو تعبّر عن تقديرها اللامتناهي لهذه الهيئات بالإضافة إلى التزامها بمساعدتها. فإن جهود هذه الهيئات تنطوي على أهداف أعمق من مجرّد حماية الحجارة والمباني.
يذكّرنا الكثير من السوريين، مثل عالم الآثار خالد الأسعد، الذي قتل بين آثار مدينة تدمر، بأننا لسنا مجرد كائنات من لحم ودم وحسب بل نعيش أيضاً قيماً نتناقلها من جيل إلى آخر وقد ضحى كثيرون بحياتهم في سبيل حماية هذه الآثار.
ويجسّد التراث هذه القيم الحضاريّة الأساسيّة التي لا يمكن أي مجتمع إنساني أن ينشأ من دونها. وتجسّد سورية نقطة التقاء حيويّة لكل من التراث الآشوري واليوناني والروماني والفارسي والإسلامي، وتظهر كيف أن الثقافات يؤثر بعضها في بعض ويثري بعضها بعضاً. فإنّ هذا التراث ليس مجرّد مكسب للمتاحف بل هو دليل حي على حريّة وكرامة الشعوب.
وما هذه التعبئة العالمية إلا دليل على أن الثقافة هي قاسم مشترك من أجل الحوار والسلام بعيداً من الانقسامات السياسيّة. فقد كثّفت عشرات الدول، مثل الولايات المتحدة الأميركيّة وألمانيا وسويسرا والصين، إجراءات مراقبة القطع الأثريّة على الحدود. فإنّه يتم استخدام إيرادات الإتجار غير الشرعي بهذه القطع في تمويل الإرهاب. وقد ضبطت الجمارك البريطانية والسويديّة والتركيّة بعض القطع غير موثوقة المصدر. وتقدّم كل من فرنسا واليابان دعمها التقني وتدعم الباحثين الشباب في هذا المجال.
أما الاتحاد الأوروبي والنمسا وبلجيكا وغيرها من الدول، فقد قدّمت الدعم المالي، وأنشأت إيطاليا مجموعة خاصة من الخبراء المعنيين بالآثار، أما روسيا التي تُعتبر جهودها حاسمة في مجال طرد الإرهابيّين من مدينة تدمر، فإنها تعرض مساعدتها لإنقاذ المتاحف المدمّرة. وقد تم اعتماد القرار الأخير للمجلس التنفيذي لليونسكو في شأن حماية التراث السوري بالإجماع.
وعلى رغم التأخر ونقص الموارد، يبعث هذا التنسيق الدولي أملاً جديداً سيتضاعف على أساس مبادئ واضحة.
ويعدّ الدمار الحاصل في مواقع التراث جزءاً من الأزمة الإنسانيّة ولا يمكن فصل مسألة حماية هذا التراث عن حماية الحياة البشريّة.
والتراث السوري غير قابل للتجزئة: فلا تمكننا محاولة حماية مدينة تدمر وترك مدينة حلب للدمار ولا يمكننا كذلك أن نهتم بقلعة الحصن (حمص) وننسى مملكة ماري.
فهذا التراث العالمي ملك لجميع السوريّين من دون أي استثناء ولا يستطيع أحد أن يتصرّف فيه كما يشاء.
ولهذا السبب، ترفض اليونسكو مشاريع الترميم المستعجلة أو أحادية الطرف، وتدعو إلى الحذر والجديّة والاحترام أثناء التعامل مع ممتلكات أي بلد يحتدم فيه الصراع.
وعلى رأس الأولويات يتربّع العمل من دون أي تأخير على توثيق كل ما أمكن من التراث وحمايته أينما وجد. وتشهد الأعمال القائمة منذ خمس سنوات على ذلك، بالإضافة إلى إجراءات الطوارئ والبرامج التدريبيّة والكم الهائل من المواد اللازمة التي ترسل إلى مواقع التراث لاستخدامها هناك ومهمّة تقييم الضرر الحاصل في تدمر والتي نظّمت في 25 نيسان (أبريل) الماضي.
لا يجوز لأحد أن يغالي، وبالدرجة الأولى اليونسكو، لأن المهم الآن هو الإرادة في العمل والتعاون مع الجميع والتركيز على التراث ورفض أي محاولة لاستغلاله. وضمن هذه الرؤية تجتمع اليونسكو، في الفترة بين 2 و4 حزيران (يونيو)، في برلين مع مجموعة من البعثات الأثريّة إلى سورية وخبراء سوريّين ومن جنسيّات أخرى.
يمثّل هذا الحوار البنّاء تحدياً في ذاته. ولكن لا بدّ منه لكي تتمكّن الثقافة السورية من النهوض من جديد، كما حدث في تمبكتو (مالي) ووادي باميان (أفغانستان) وموستار (البوسنة والهرسك) ووارسو (بولندا) في أعقاب عام 1945.
في كل مرة تولد الثقافة من جديد، يرفع الشعب رأسه من جديد.
المصدر : الحياة