“ليس في السياسة صديق دائم ولا عدو دائم”، مقولة من الثوابت لا يشذ عنها “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين، وكذلك “السلطان – الرئيس” رجب طيب أردوغان الذي أقر، ولو متأخرا، بغلبة الواقعية السياسية على الأيديولوجيات. وهكذا فإن تسريع استئناف العلاقات بين تركيا وإسرائيل، والتطبيع التركي مع روسيا، يثيران تساؤلات مشروعة حول دوافع الانقلاب الأردوغاني ومكاسب أنقرة وإسرائيل وإنجازات روسيا في خلط الأوراق والتحالفات الإقليمية. ومما لا شك فيه أن الترتيبات الإقليمية الجديدة ستنعكس على المسألة السورية والطموحات الكردية والمصالح الاقتصادية للأطراف المعنية.
للوهلة الأولى، يظهر أن الرئيس التركي أخذ يخشى خطر العزلة وأن تكون بلاده مستبعدة من الحلول التي سترتسم في المرحلة القادمة أو لإعادة تركيب الإقليم. أردوغان المسكون بالتاريخ سعى للتحكم بقطار “الربيع العربي” بعد حذر في بداياته، وكان يريد بعث “العثمانية الجديدة” ولعب الدور القيادي في المنطقة من خلال “منظومة الإسلام السياسي” التي برزت في 2011 – 2013، لكن التطورات في مصر وسوريا وبروز داعش والرهان الأميركي على الأكراد، ووصول الفوضى التدميرية إلى تركيا، دفعت بالسياسي العنيد الحماسي أن يعود إلى أرض الواقع بعدما حلق عاليا مع سحر الكلمات والرهانات الخائبة، إذ اتضح له أن الانتقال من طموح تركيا الأوروبي إلى مسعى ممارسة الزعامة الإقليمية وتقاسم النفوذ في العالم العربي “الرجل المريض” (لقب السلطنة العثمانية منذ قرن من الزمن) لهذه الحقبة ليس مضمونا. وكان الأدهى عدم وقوف حلف شمال الأطلسي إلى جانب أنقرة بعد حادث الطائرة الروسية، وخيبة الأمل التركية من الموقف الأميركي المتباين، والذي لا يعنيه في المقام الأول الحفاظ على مصالح تركيا أو بالأحرى زعامتها الإقليمية.
إزاء تغيير موازين القوى في النزاع السوري وتهافت الكبار على لعب الورقة الكردية ضد داعش، ومع تبلور التقاطعات الروسية مع إسرائيل وإيران تحت عين واشنطن، أدرك أردوغان أنه لا بد له من لعب كل أوراقه خاصة وأن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين والصلة مع ألمانيا لا تعيدانه إلى المربع الإقليمي الأول بسبب أخطاء التقدير والنهج التي ارتكبها إن في المسألة السورية (عدم دعم الجيش الحر في اللحظة المناسبة) أو في تحويل وجهة الربيع العربي كي يصبح إسلامي الطابع، أو بالنسبة إلى العلاقات مع إيران، والأهم كان في عدم استيعاب أهمية العنصر الكردي في المعادلة الإقليمية. وإضافة إلى كل ذلك ساد عدم الثقة مع واشنطن ووصل الرئيس التركي إلى الحائط المسدود. بالرغم من أن البعض يريد أن ينسب إخفاقات السنوات الأخيرة والتشدد إلى أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة السابق، فإن في ذلك مجافاة للحقيقة في ظل هيمنة أردوغان الذي يبدو أنه قرر الاستغناء عن رفيق دربه وتحقيق هدف داخلي لأنه لا يتحمل وجود شخصية قوية تلجم سعيه لتركيز نظام رئاسي. وفي نفس الوقت تم تقديم داود أوغلو صاحب نظرية “صفر مشكلات” مع الإقليم بمثابة القربان أو الضحية كي يبرر الرئيس التركي تراجعاته أو يمهد لنهج تكتيكي جديد بدأه عبر البوابة الإسرائيلية.
منذ خمسينات القرن الماضي تعاونت إسرائيل وتركيا، وهما قوتان إقليميتان غير عربيتين في الشرق الأوسط، وتصرفتا كأنهما في حلف طبيعي،غير أن سياسة أردوغان في الانخراط مع العالم العربي وإيران، وموقفه من اجتياح غزة في العام 2009 وحادث سفينة مرمرة في مايو 2010، أدت إلى قطع العلاقات بين شريكين استراتيجيين سابقا في الإقليم. لكن في موازاة حصاد سلبي في المجمل لتركيا منذ 2011، تحسنت علاقات إسرائيل مع مصر واليونان وقبرص وهي دول في شرق البحر الأبيض المتوسط وكلها متخاصمة مع تركيا.
إن هذا الواقع، بالإضافة إلى التوتر مع روسيا والحذر من الغرب والخوف من العزلة، حفز الرئيس التركي على تقديم التنازلات اللازمة والتوقيع على الاتفاق. استغرقت المفاوضات وقتا طويلا لأن أردوغان كان يطالب باعتذار إسرائيل والتعويضات وفك حصار غزة، وقد نال فقط المطلبين الأوليْن واهتزت صورته بشدة لأنه أراد تقديم نفسه للعالم الإسلامي باعتباره المدافع القوي عن الشعب الفلسطيني، والمنافس لإيران في لعب دور البطل بالوكالة عن العالم العربي.
كل هذا لا يعني أن كل الملفات الخلافية أغلقت بين إسرائيل وتركيا إذ لا يزال هناك حذر في إسرائيل بسبب علاقات حزب العدالة والتنمية مع حركة حماس، وإزاء التعاون الأمني الكبير بين أنقرة وطهران في مناسبات عديدة، ولذلك ستتطلب عودة التعاون الأمني والعسكري مرحلة اختبار بين الجانبين. بيد أن أهم الخلاصات الاستراتيجية لهذا التحول تتمثل في التفاهم على احترام مصالح الطرفين في الساحة السورية، والتوافق على إيصال أنابيب الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى تركيا.
إنها الحاجة المتبادلة بين الدولتين على ضفاف المتوسط، التي فرضت النقلة الجديدة وتليين جموح نتنياهو وأردوغان لأن الأيديولوجيا السياسية تسقط أو تتوقف أمام مصالح الدول ومستقبلها، وهذا درس يتوجب على اللاعبين العرب تأمله مليا للحفاظ على مصالحهم وإنهاء زمن الانكشاف الاستراتيجي العربي.
في استكمال التحولات، قام السلطان وطرق على باب القيصر وهنا أيضا كانت الحاجة متبادلة بالرغم من شدة لهجة الخطاب السياسي بين أنقرة وموسكو في الأشهر الأخيرة. وهنا شرب أردوغان “كأس السم” واعتذر عن حادث إسقاط الطائرة، ويبدو أن خصم الأمس نتنياهو هو الذي سهل إخراج اللحظة الأخيرة من التطبيع التركي – الروسي كي تتكامل لعبة المصالح بين أطراف تشعر بقوة تأثيرها في غياب سطوة القوة الأميركية المتراجعة في الإقليم. ربما ترتسم أمامنا صورة متكاملة تبين مكانة الموقع التركي، إذ أن خط الغاز الإسرائيلي التركي إلى أوروبا، يوازيه خط روسي تركي ومرور للطاقة الإيرانية عبر تركيا، وهكذا فإن إيران وإسرائيل وروسيا بحاجة للممر التركي، وبالتالي يتضح أن الجغرافيّتَيْن السياسية والاقتصادية تفرضان وقائع لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ولذا ستبذل أنقرة ما بوسعها لإعادة العلاقات مع دول البحر المتوسط والبحر الأسود.
بالنسبة إلى الانتعاش مع موسكو، هناك مصلحة سياسية اقتصادية وأمنية لكلا الطرفين؛ إذ أن بوتين الذي يخوض مبارزة مقننة مع حلف شمال الأطلسي، يرى في هذا التحول التركي فرصة للغمز من قناة واشنطن. واقتصاديا عانى البلدان من القطيعة إذ كانت روسيا في 2011 أول شريك تجاري لتركيا وبلغ حجم المبادلات بينهما 30 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، تحتاج أنقرة إلى موقف روسي معتدل من المسألة الكردية، وفي المقابل تحتاج موسكو إلى التعاون الأمني مع تركيا بخصوص الحركات الجهادية في الجمهوريات الإسلامية في الجوار الروسي، خاصة أن آخر الأخبار تشير إلى نجاح تنظيم داعش في المزيد من تجنيد المقاتلين في آسيا الوسطى والقوقاز وجوار روسيا.
ستنعكس النقلات النوعية لأنقرة على المشهد الإقليمي وفيها تهميش للاعبين العرب، ووضع إسرائيل في قلب اللعبة الشرق أوسطية، واحتكاك غير مباشر مع المصالح الإيرانية وحماية في المقام الأول لطموحات أردوغان ومصالح أنقرة. وبالطبع، لن تكون هناك مصالحة بين أردوغان وبشار الأسد فهي ليست على جدول أعمال صناع القرار، بل في حال تعذر تركيب الحل الروسي ربما يبدأ تقاسم النفوذ بين مناطق مكونة عمليا في سوريا، وهنا يكمن كل جهد أردوغان في السعي لتحطيم الحلم الكردي.
من المبكر إعطاء أجوبة حاسمة لأن مخاض ولادة المشهد الإقليمي الجديد ستنتظر الرئيسة القادمة أو الرئيس القادم إلى البيت الأبيض، وكذلك نتائج الصراع المفتوح على أكثر من جبهة. في المختصر، لملم أردوغان أوراقه للبقاء لاعبا مؤثرا، ونجحت إسرائيل في تسجيل اختراق، وجرى التسليم لبوتين في موقعه الجديد في المشرق، واستمر الكسوف الأوروبي. ويتضح أن إنهاك القوى العربية الفاعلة بالصراعات من العراق إلى اليمن وليبيا سيحرمها، إن لم تبلور حلف الضرورة بينها، من الجلوس على طاولة التفاوض وإعادة التركيب الإقليمية في مرحلة لاحقة.
المصدر : العرب