توقعت صحيفة «القدس العربي» في افتتاحية نشرتها في آب/أغسطس عام 2014 أن تقوم «جبهة النصرة» بفكّ ارتباطها عن تنظيم «القاعدة» وذلك بعد رفع عناصر منها علم الاستقلال الذي اعتمدته التنظيمات السياسية والعسكرية في بداية الثورة السورية كبديل عن علم النظام السوري الحالي خلال حادثة اختطاف تعرّض لها جنود البعثة الأممية لمراقبة الهدنة على الحدود السورية مع إسرائيل.
الحادثة انتهت وقتها بإطلاق الجنود الأمميين وهو أمر يتناسب مع الإشارة التي أظهرتها «النصرة» ولم يتمّ استثمارها من قبل الأطراف المحليين والخارجيين للصراع رغم أهميتها المتمثلة بإظهار «النصرة» شكلاً من أشكال التفاوض والرغبة في التطبيع «السياسي».
وقد استغرق هذا التوقع سنتين ليتحقق بإعلان أبو محمد الجولاني، زعيم «جبهة النصرة» في لقاء مع قناة «الجزيرة» القطرية أول أمس الخميس، فك الارتباط عن التنظيم الموضوع عالمياً على لائحة الإرهاب، واتخاذ تنظيمه اسم «جبهة فتح الشام».
أثار الإعلان جدلاً وخلافاً شديداً بين السوريين أنفسهم، وثارت تساؤلات مؤلمة بمرارة السنوات الدموية الماضية التي دمّرت بلادهم، بين مشكّك بصدقيّة الإعلان ومذكّر بأفعال «النصرة» ضد «الجيش الحر» والمدنيين الدروز في إدلب، وبين مرحّب به لأنه قد يحفظ دماء المدنيين الذين يُقتلون يوميّاً باسم محاربة «فرع القاعدة في سوريا»، أو يسقطون أثناء الصراع بين «النصرة» وأطراف أخرى من المعارضة، إضافة إلى إمكان تجميعه الجهود لمواجهة النظام السوري، وكذلك مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» التي هي الطرف الذي يتواجه مع كل السياسات الداخلية السورية والإقليمية والعالمية.
البيت الأبيض أعلن على لسان متحدثه جوش إرنست أنه «ليس ثمة أي تغيير في نظرة» الولايات المتحدة تجاه «جبهة النصرة» في سوريا غير أن الأمر لا يتعلّق، بالنسبة لواشنطن، بالأضرار (أو الفوائد) التي يمكن أن تنجم عن خطوة «النصرة» الأخيرة في سوريا أو على السوريين أنفسهم بل بالمخاوف من شنها «عمليات خارجية قد تُشكل تهديدا على الولايات المتحدة والدول الأوروبية»… أي ما منطوقه «فلتذهب سوريا إلى الجحيم، المهمّ هو أن لا يكون هناك تهديد علينا».
والحال أن هذه الأجندة الأمريكية تقلب المعادلة بحيث تصبح واشنطن هي الطرف الأيديولوجي الصلب الذي لا يريد أن يلتقط بوادر التغيّر لدى الآخرين ويستثمرها، ولا يريد، أصلاً، أن يفهم الأبعاد المعقدة للمشكلة لا في سوريا ولا في العالم العربي.
لا تشغل الأمريكيين مثلاً قضية تحوّل المسألة السورية من صراع مدنيّ ضد الاستبداد إلى صراع طائفيّ مرير بحيث أن محاولاتهم، مع الروس، لإبقاء النظام ودعم قوّات كرديّة للقضاء على «داعش» ستشكل، في نظر السوريين والعرب، وقوداً مستمراً لغضب الأكثرية السنّية التي دفعت في سوريا (والعراق) الثمن الباهظ للسياسات الأمريكية، وأن الطريقة الوحيدة لبدء تسوية، ولو مؤقتة، للصراع عليها أن تستجمع كل الروافد التي انصبّت فيها المظلومية السنّية.
لقد تفاوضت أمريكا مع أكثر خصومها شراسة وبدّلت، وكذلك العالم، أكثر من مرة، تعريف الإرهابي ببطاقة المفاوض، كما فعلت مع الفيتناميين ومع نلسون مانديلا وياسر عرفات.
ومعلوم، للمقارنة فحسب، أن صراعاً شرساً يدور في أكثر من بلد عربيّ لإلزام جماعة الإخوان المسلمين بفك ارتباطها عما يسمى بـ»التنظيم العالمي للإخوان»، وأن هذه المحاولات لم تكلّل حتى الآن بالنجاح.
البديل عن محاولة إدخال «النصرة» في المعادلة السياسية السورية والإقليمية وإخراجها من طور التوحّش والمواجهة العدمية مع العالم هو محاولات جديدة فاشلة لفتح أبواب الاستثمار المتطرف في قضية «المظلومية السنية»، ولا نحتاج لتأكيد فشل هذه السياسة إلى التذكير بأن «جبهة النصرة» نفسها لم تكن موجودة قبل عام 2012، وأن «الدولة الإسلامية» لم يكن لها موطئ قدم في سوريا حين كانت المظاهرات السلميّة تملأ الشوارع.
المصدر : القدس العربي