في تسجيلٍ مصوّر بث في 28 يوليو/ تموز 2016، ظهر أمير جبهة النصرة في سورية، أبو محمد الجولاني، كاشفًا وجهه لأول مرة، وأعلن فك ارتباط الجبهة عن تنظيم القاعدة، وتأسيس تنظيم جديد بمسمى جبهة فتح الشام. ومع أن الإعلان السابق جاء بعد نقاشات استمرت أكثر من عام، وحسمت في 8 مايو/ أيار 2016 برسالةٍ صوتيةٍ لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، قال فيها إن انتماء جبهة النصرة تنظيميًا لن يكون عائقاً أمام ما سماها “الآمال العظيمة للأمة في إقامة حكومة مسلمة”، فإن المساعي الأميركية – الروسية لتنسيق أعمالهما العسكرية في سورية لمحاربة الإرهاب، واستهدف الجبهة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كان له أثره المباشر في تسريع هذه الخطوة.
استثنت الهدنة الفاشلة التي حاولت روسيا وأميركا فرضها في سورية، منذ فبراير/ شباط الماضي، جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية منها، بشكل أتاح للنظام السوري وروسيا خرقها باستمرار. ومع أن “النصرة” أخلت عددًا من مقراتها في المدن الرئيسيّة، لتجنيبها القصف الروسي وقصف التحالف، فإن أصواتاً عدة، داخليّة وخارجية، أعادت مطالبة الجبهة بفك الارتباط مع القاعدة، لسحب الذرائع من روسيا والتحالف الدولي، بالتزامن مع الاستعدادات لمعركة حلب الكبرى. ضمن هذا السياق، جاءت رسالة الظواهري أخيراً لتؤمن “مظلة شرعية” لخيار فك الارتباط، ورفعًا لإشكال خروج الفرع عن الأصل، كما حصل مع تنظيم الدولة والقاعدة. وقد استبق نائب زعيم تنظيم القاعدة، أحمد حسن أبو الخير، كلمة الجولاني برسالةٍ عبر فيها عن “تأييده” قرار الجبهة بفك الارتباط، لسحب الذرائع من القوى الدولية، في استهداف المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة. وإذا كان من الصعب التكهن بشكل دقيق بخيارات الجبهة (فتح الشام) للتكيّف مع التغيرات والمستجدات الأخيرة، فإنها قد تندرج ضمن احتمالات:
تشكيل كيان جهادي مستقل: تسيطر الجبهة منفردةً، أو بالاشتراك مع فصائل أخرى، على مناطق عدة في محافظتي إدلب وحلب. تحكم “النصرة” في مدينة إدلب وأجزاء من ريفها من جهة، والتدخل العسكري الروسي. من جهة أخرى، دفع بعض الفصائل، ذات المنهج السلفي الجهاديّ التي اعتزلت قتال تنظيم الدولة، مثل جيش المهاجرين والأنصار، إلى زيادة التعاون مع “النصرة”. كما جرت مداولاتٌ للاندماج بين “النصرة” وجبهة أنصار الدين (جبهة تضم فصائل سلفية جهادية تنشط في الشمال) لكن تبعية “النصرة” للقاعدة ظلت تمثل عائقاً أمام ذلك. وبناءً عليه، قد يكون قرار الجبهة أخيراً مقدمةً لتسهيل الاندماج، وجذب الفصائل المحايدة في الصراع ضد تنظيم الدولة.
اندماج فصائل جيش الفتح: طرحت الجبهة، مطلع العام الجاري، مبادرة لاندماج فصائل جيشحينها. توقف المعارك في إدلب، وانسحاب فصائل أساسية، مثل فيلق الشام، وتعليق عمل عدد من مؤسساته، بسبب الخلافات الفصائليّة، أخفى اسم جيش الفتح من المشهد السوري في النصف الأول من عام 2016، لكن معارك ريف حلب الجنوبي وخان طومان أخيراً، ونجاح فصائله في استعادة قرية خان طومان الاستراتيجية، وإلحاق خسارة فادحة بالقوات الإيرانية والمليشيات العراقية، ومن ثم نجاحها في فك الحصار عن حلب، أعاد طرح اسم الجيش من جديد قوة عسكرية متماسكة. وجدير بالذكر أن ظروف معركة حلب أعادت إحياء مفاوضات الاندماج بين الجبهة و”أحرار الشام” أخيراً، من دون أن تصل إلى نتيجة حتى الآن، على الرغم من التوافق على نقاط كثيرة.
بالمحصلة، يقدم لنا تاريخ دول المنطقة أمثلةً عديدةً عن تجارب جهادية، اضطرت، تحت تأثير عوامل مختلفة، إلى فك الارتباط التنظيمي والفكري مع “القاعدة”، والتحول إلى العمل السياسي، أو العسكري، ضمن الإطار الوطني، كما الحال مع الجماعة الليبية المقاتلة، قبل الثورة الليبيّة وبعدها.
وبناء عليه، فإن قرار “النصرة” فك ارتباطها بالقاعدة قد يكون مقدمةً لسلسة من الخطوات الأخرى، للاقتراب من الفصائل العسكرية، والمعارضة السياسية السوريّة، بما يسمح باندماجها واعتدال خطابها. وعلى هذا الأساس، رحبت الهيئة العليا للمفاوضات بتحفظ على قرار “النصرة”، وكذلك فصائل المعارضة المسلحة، داعية قادتها إلى الاقتراب من المشروع الوطني، وإصلاح أخطاء المرحلة الماضية.
بيد أن عوائق خارجية وداخليّة تواجه “النصرة”، لعل أبرزها التجاوب السلبي من القوى الدولية، مع قرار “النصرة” كما بدا في موقف الإدارة الأميركية التي أعلنت أن “النصرة ستبقى تنظيماً إرهابيّاً”، وأكدت على استمرار التنسيق مع روسيا لاستهدافها. أضف إلى ذلك، إن قضايا إشكاليّة داخلية، مثل المقاتلين الأجانب، والمنهج السلفي الجهادي، والعلاقة المتوترة مع بعض الفصائل، قد تقف حائلاً دون هذه المراجعات، أو على الأقل تعرقل تنفيذها سريعاً.
المصدر : العربي الجديد