مقالات

حامد الكيلاني – سحايا الطائفية في مضايا وحواضر العرب

الكلمة عند الكتّاب تختصر كتابا، والنوتة عند الموسيقيين تبرر مقطوعة كاملة؛ والتهجير أو الاستيطان مفردتان تفتحان لنا الطريق لفهم أهداف المشروع الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهو خط السير ذاته للإمبراطورية الفارسية القديمة التي سبقت بداية التاريخ الميلادي بأكثر من خمسة قرون.

استرداد ذهنية تلك التراكيب المعقدة، يتجاوز استلهام مصادر القوة أو رسم مخيلة لها كرموز معنوية ونفسية؛ إن ما يحصل ممارسات بقياسات خبث بدائية وخطط عسكرية، همّها إيقاع أكبر الخسائر في المدن وسكانها والاستمتاع بالعذابات الجماعية للمدنيين المعزولين، لاعتبارات جاهزة في زمنها، واليوم الفصل العنصري الطائفي محورها.

الأمم المتحدة مؤخرا استفاقت لبرهة، رافضة مشاركة محور الاستبداد في إخراج سكان حي الوعر بحمص، ضمن سلسلة مقايضات الأرض والمدن مقابل البقاء على قيد الحياة ونقلهم إلى مناطق متجانسة طائفيا، يسهل معها التعامل مستقبلا.

نبهنا كثيرا بأن حصار المدن في سوريا ليس خيارا عسكريا للسيطرة على تمرّد أو ثورة لمجموعة أفراد أو مجموعات مسلحة؛ لو كان الأمر كذلك لما احتاجت القوات النظامية إلا إلى تعزيزات تفوق قدرة قوة النار المتحصنة في الأحياء السكنية، وهي في كل المقاييس لا تملك إلا أسلحة خفيفة، فمن غير المعقول وجود الأسلحة المتوسطة والثقيلة كالمدافع والدبابات أو الراجمات، خاصة في بداية الثورة ومن ثمّ اشتعال فتيل الكفاح المسلح.

لماذا والحالة هذه، والتجارب عديدة، القوات النظامية بعد استخدام القوة المفرطة غير المبررة في القصف العشوائي على المدن والبلدات والأحياء ثم اقتحامها والتمرس فيها وزراعة النقاط والتحصين، تعود لتنسحب في مخطط وبأوامر مشتركة من قيادة العمليات وتنسيقها المعلن مع الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الطائفية ذات العناوين الفرعية الدينية والمذهبية وشعاراتها، وبمجملها إن كانت أحزابا. أو فصائل، فهي تنتمي تمويلا وتجهيزا وإعدادا وأهدافا للحرس الثوري الإيراني.

الانسحاب والتطويق والحصار، أبرز الخطوط العريضة لمرتادي غرفة الحركات العسكرية لمشروع الإبادة لكل التجمعات السكانية التي أراد النظام السوري مقايضتها أولا. بالاعتماد على معادلة الماء والكهرباء والغذاء مقابل بقاء النظام في الحكم واستمراره، لكن التحولات والمتغيرات أمست صارخة عندما ارتهن النظام ومصيره تماما بولاية الفقيه التي اعتمدت تسريع وتيرة إثارة الفتنة الطائفية في المنطقة لخلق ردة الفعل المطلوبة لصناعة مبررات التوحش وإشاعة الإرباك وصولا إلى تشظّي التوجهات والآراء والمواقف وتضاربها بين الشخصيات والقوى الحاكمة والجهات ذات المسؤولية في إيران.

سياسة الزئبق والتملص من التصريحات، سمة تتقاذفها ولاية الفقيه بمرجعية جذورها الفارسية، تبدو في الظاهر اختلافات تنمّ عن تضارب وتقاطعات، إلا أنها في جوهرها تمثل وحدة طراز لحكم استثنائي يقوم على تدبر الحجة وإيجاد المخارج وتوفير البراقع لتغطية أقبح ما في السلوك البشري من رغبة في تدمير كل ما يقف في طريق غاياتهم وحلمهم الإمبراطوري، أو اتباع وسائل لا تنسجم أبدا مع ظاهر انكفائهم الغيبي المذهبي، في كوكتيل لخليط عناصر ممكن أن تكون متنافرة، لكنها تؤدّي إلى تجسيد أسطورة لن تتحقق إلا بالمزيد من نتاج الأهوال الذي نعيشه واقعا في العراق وسوريا.

حصار المدن والرهان على الزمن ومفارقة المواقف الدولية وتراجع مناسيب الإنسانية لصالح الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية، منحت كلها الفرصة كاملة لممارسة إرهاب دولة اللادولة ضد المدنيين العزل والتبرير دائما للقضاء على العناصر المسلحة داخل الأحياء أو المدن.

الزبداني وداريا والمعضمية وغيرها وما يجري في حي الوعر ومدينة مضايا وكل المدن المبتلاة بالتجويع وتفاقم الأوضاع الصحية سوءا وانتشار الأوبئة ألا يعيدنا ذلك إلى أزمنة حصار المدن القديمة وبناء الأسوار في العصور الغابرة؛ كيف يبدو ما يجري منسجما.

مع مجرّد لقاءات أو اتفاقات بين قوى كبرى لا توفر حدّا أدنى من ضمانات استمرار ولو هدنة قصيرة، لأنها أساسا وجدت ليتم خرقها واستثمار نتائجها لتثبيت شبكة علاقات تلتقط حتى صغائر الأفعال لتدجينها في خدمة قرصنة متقدمة لكل ما يمتّ بصلة لشعوب فقدت ثقتها في الحياة وفي دور الدول الراعية التي نصبت من نفسها بديلا عنها.

الأمم المتحدة إذ ترفض، ولو مؤقتا، المشاركة في ترحيل سكان حي الوعر بحمص، كانت هي من اتخذ قرار أكبر جريمة لفرض الحصار الشامل على العراق الذي استمر 13 عاما وانتهى باحتلال العراق، وأدّى إلى شلل في البنية الأساسية للشعب العراقي ووحدته الوطنية والإنسانية، وآثاره تطفو الآن في ضياع الأمن وانتشار الإرهاب والمافيات والفساد الحكومي وتراجع الوعي وانحسار الهوية الجامعة وتمدد نسبة الأمية والفقر بما ساهم في دفع الآلاف من الشباب للبحث عن فرص عمل لم يجدوا لها سبيلا، فكانوا لقمة سائغة إما للإرهاب وإما التطوع في صفوف الميليشيات الطائفية أو الحشد الطائفي المعزز بسلطة الفتوى والمال والمدعوم من الدولة التي تستعد لتسليم البلاد إلى الحرس الثوري الإيراني وقائده سليماني، بفرعه العراقي، والاعتراف به كقوى لها سلطات عسكرية ومؤسساتية وسياسية قادمة تفوق صلاحيات الجيش العراقي رغم ما فيه من اختراقات مسبقة.

ما يأتي ينذر بالمزيد من الضحايا والتهجير وركوب موجة الصراع على مغانم السلطة والبوادر مخجلة في التكالب على وطن مليء بالجراح، وراقد في صالة الإنعاش، ينتظر معركة تحرير الموصل وما ستسفر عنه محليا وإقليميا ودوليا. إضافة إلى توقعات أقسى موجة نزوح جماعي، لم تتوفر لها أدنى الاستعدادات في إيواء واستيعاب محنة ما يقارب المليون نسمة.

الاستيطان الإيراني وشراء الممتلكات والأراضي والفنادق والمساهمة في ضخ رؤوس الأموال للإعلام والشركات والتعليم والبنوك، عمل منظم يعد العدة لطموحات استقرار مشروعهم الصفوي في الأراضي المحتلة للقفز إلى مواطئ قدم جديدة أخرى، لافتراس حواضر المدن العربية بعد إملاءات اليأس وتطويق الأمل ومحاصرة الشعوب بالموت.

عندما نرى الناس يترنحون من الجوع والخوف في المدن المنكوبة بالظالمين، هل يتسنى لنـا القول إننا نعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أم إننا في أحـد فصـول تلك الأساطير المليئة بالمسوخ والرعب؟

المصدر : العرب 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى