استطاع نظام الأسد من السيطرة على شرق حلب وقبلها جزء واسع من ريف دمشق عبر الحصار الطويل والقصف الدموي واستخدام السلاح الكيماوي ودعم مستميت من الروس بأكثر من 50 ألف غارة نصفها ألقي فوق حلب ناهيك عن الحرس الثوري الإيراني والمليشيات العراقية واللبنانية الشيعية.
في الحالة العسكرية الثورية لم تنتهِ الثورة ولكن تراجع مدها الجغرافي على مساحة سوريا، وحصر أغلب ثوارها اليوم في ادلب وريفها وأجزاء من ريف حلب.
كما أنّ التباعد بين العسكري والسياسي في الثورة السورية أدى لخسارة موقع قدم مؤثر في حالة كسب الحلفاء على الصعيد الدولي، خصوصاً وأن نظام الأسد متوحد سياسياً وعسكرياً ويتبنى خطاب سياسي واحد سواء في الجامعة العربية أو الأمم المتحدة وإن كنّا حرمنا من ذاك التمثيل منذ بداية الثورة.
أكثر ما أضر بالثورة السورية هو إطلاق عبارات عامة غير مبنية على دراسات ومواقف حقيقية.
فمثلاً ومنذ بداية الثورة كانت ثنائية الأبيض والأسود هي اللغة المعتمدة في أي طرح تم تداوله من قبل إعلام الثورة.
ومع أن العامل السياسي له أهميته التي لا تقل عن العامل العسكري نجد أن هناك من يقرر إضعافه أو طمسه عندما يحصره بهذه الثنائية إذ إن السياسة تبقى دائماً ضمن دائرة الرمادي لأنها تبنى على المشتركات بين المتعارضين.
وإذ نعلم يقيناً أن المواقف الثورية مواقف لا تحتمل المواربة أبداً ولا تعترف باللون الرمادي وتحتاج لمفارقة ومفاصلة واضحة لا لَبَسَ فيها إلا أن استبعاد السياسي كلياً وعدم تمثيل الثورة سياسياً له مساوئه التي تؤثر على النتائج المأمولة للثورة وللتوفيق بين الموقف الثوري والسياسي يجب الفصل ما بين السياسيين والثوار، فللثوار كامل الحق في التمسك بثوابتهم التي من أجلها قدموا أغلى ما يملكونه، لكن بنفس الوقت ينبغي إعطاء السياسيين الثقات الذين ثبت حرصهم على أهداف الثورة حرية العمل السياسي وهذه النقطة بالذات كانت معدومة تماماً في حالة الثورة السورية ورأينا حفلات التخوين التي لم يسلم منها أحد أبداً.
لقد بدأ هذا الخطأ منذ بداية تشكيل أول جسم سياسي للثورة نهاية عام 2011 (المجلس الوطني السوري) حيث تم منح بعض الثوار أماكن في هذا الكيان فتسبب ذلك بشلله وعدم قدرته على السير لأن أعضاءه غير متجانسين ولا متحدين بالتكتيكات رغم وحدة أهدافهم ولذلك فشل المجلس في تحقيق المأمول منه.
للأسف تم ارتكاب نفس الخطأ لاحقاً في كل التكتلات السياسية التي تشكلت خلال الثورة وطفت الخلافات على السطح وأصبحت مادة دسمة لوسائل الإعلام المغرضة التي توجهها دول لا تتمنى انتصار الثورة على النظام ثم تحولت الخلافات إلى حفلات للتخوين بطريقة مرضية تحتاج فعلاً لدراسة من أخصائيين نفسيين وكانت النتيجة أن أصبح كل العمل المعارض مادة للتندر عند رجل الشارع البسيط وخسرت الثورة السورية هيبتها التي اكتسبتها في بداية الثورة.
إن عدم القراءة السياسية الصحيحة لمواقف الدول الداعمة لكل الأطراف كان له نتائج ساعدت في إضعاف جانب الثوار في كثير من المواقف وكان الحل ببساطة يقتضي أن يضع الثوار والسياسيين قائمة أهداف مشتركة ويسيروا في خطين متوازيين فعندما يضعف الخط السياسي يبرز الثوري وعندما يضعف الثوري يبرز السياسي إلى أن تنتصر الثورة.
وعلى الصعيد السياسي بعد أن احتل نظام الأسد لمدينة حلب وهجّر منها أهلها عقدت كل من روسيا وتركيا وإيران يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول اجتماعاً في العاصمة الروسية موسكو على مستوى وزراء الخارجية وغاب عن الاجتماع كل من نظام الأسد وقوى المعارضة السياسية والعرب. وخرج الاجتماع بما يُسمى ” بيان موسكو” والذي نص على أنّ الأولوية في سوريا هي لمكافحة الإرهاب لا لإسقاط الأسد؛ وأن الدول الثلاث على قناعة بأن لا وجود لحل عسكري في سوريا؛ والسعي لإطلاق مفاوضات بين نظام الأسد وقوى المعارضة السياسية.
ما يدعو للتساؤل أننا اليوم أمام وضع استثنائي نفقد فيه أغلب الأصدقاء أو الحلفاء وعلينا أن نخرج في هذه الظروف بمكتسبات سياسية مهما كلف الثمن للحفاظ على من تبقى من أرواح وأراضي حتى تصل الثورة لأهدافها.
وهناك خطة أن تكون المفاوضات بين ” نظام الأسد والمعارضة” التي انبثقت عن اجتماع موسكو مقرها الأستانة عاصمة كازاخستان بما أنها دولة غير مشاركة في الصراع.
غالباً ستدعو موسكو جميع الأطراف المعنية وستتدخل تركيا لإنجاح العملية السياسية والتي وعدت بإنجاحها، وسيكون بين المدعوين كل من الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني وفي المقابل نظام الأسد وهيئة التنسيق. فنحن أمام حلف يضم روسيا وإيران وتركيا وقد يضم قطر أيضاً.
في المقابل سيدعو دي مستورا كل الأطراف إلى جنيف لاستئناف المفاوضات السياسية مدعوماً من فرنسا والسعودية. وإن كانت مفاوضات جنيف لم تثمر عن أي تقدم منذ انطلاقها وحتى اليوم.
وها نحن بعد مضي ست سنوات كاملة مازالت المشكلة على حالها ومازال بعض المحسوبين على الخط الثوري والذين ينتمون لمؤسسات المعارضة يخوّنون زملائهم على الإعلام في صورة أشبه ما تكون بالكوميديا السوداء في مشهد عبثي مستمر رغم واقع أليم لا يرحم.
لعل الكف عن المهاترات الإعلامية وحفلات التخوين الذي يصفق لها الرعاع والعملاء بات مطلباً شعبياً لأنه يشكل خطراً لا يقل عن خطر الفكر الأسود الذي اجتاح سوريا وأعطى ذريعة للدول لخيانة الدم السوري المهدور ظلماً على يد أعتى ديكتاتورية عرفها التاريخ الحديث.
فنحن اليوم أمام استحقاقين إن أخذنا أحدهما على الأقل على محمل الجد فقد ننقذ الثورة السورية من الانتهاء مع الاعتماد على فكرة وجود أرضية مشتركة مع الثوار في الساحة ومساحة سياسية واسعة ومرنة للتعامل مع الدول سواء كانت معادية أو حليفة.
وطن اف ام