من يقرأ النقاشات الأميركية، بشأن التلاعب الروسي بنتيجة الانتخابات الرئاسية أخيراً، يُخَيَّل إليه أن الحرب الباردة عادت، والاتحاد السوفييتي بُعِث من مرقده. وعلى الرغم من أن القضية تُستَخدَم في تصفية حساباتٍ داخلية، بين المؤسسة الحاكمة والقادم الغريب دونالد ترامب، إلا أنها تشير إلى حالة تعبئةٍ وطنيةٍ في مواجهة عدوٍّ، يجري تضخيم قدراته للاستنفار ضده. في المقلب الآخر، يشعر بعض اليساريين في العالم بالزهو، نتيجة الدور الروسي المتصاعد دولياً، يدفعهم إلى ذلك حنينٌ للحقبة السوفييتية، فيما يذهب يساريون آخرون مذهب كتاب أميركيين وأوروبيين، في توصيف السياسات الروسية الحالية بالإمبريالية، في إطار سعي هؤلاء اليساريين إلى البراءة من الانتماء لأيٍّ من المعسكرات الدولية، عبر إطلاق توصيف الإمبريالية على الجميع.
بالتأكيد، لا تشبه روسيا الحالية، بصيغتها “البوتينية”، الاتحاد السوفييتي، لا لناحية الأيديولوجيا، ولا الاستراتيجية. وبالطبع، لا تماثل بينهما من حيث القوة. ليست روسيا الحالية وريثة الاتحاد السوفييتي المفكّك وحسب، بل أيضاً وريثة الانهيار الشامل في روسيا الاتحادية إبّان تسعينات القرن المنصرم. تعرّضت روسيا لإذلال غربي كبير، وظهر بوتين بوصفه قائداً وطنياً، ينتصر للكبرياء الروسي المجروح، لكنه على الرغم من استعراض القوة الذي يقدّمه، خصوصاً من الناحية العسكرية، بدايةً من التدخل في جورجيا عام 2008، مروراً بضم شبه جزيرة القرم، وصولاً إلى التدخل في سورية، يعلم حدود إمكانياته، ولا يتوّهم قدرته على تحدّي الولايات المتحدة في حربٍ باردة جديدة، وصراع مفتوح على امتداد خريطة العالم، وإنما يبحث عن الاعتراف الأميركي به شريكاً في نظام عالمي، لا يقوده قطبٌ واحد يفرض إرادته على الجميع.
استلم بوتين من سلفه يلتسين بلداً منهاراً، بفعل التحول السريع نحو الرأسمالية، على طريقة العلاج بالصدمة النيوليبرالية، ما سمح بضرب الإنتاج الصناعي والزراعي، وتفشّي الفساد، وتعبيد الخصخصة الجائرة الطريق نحو سيطرة المافيا على الاقتصاد. حارب بوتين المافيا والفاسدين، وبدأ الاقتصاد في استعادة عافيته تدريجياً، لكن هذا الاقتصاد يتمحور حول قطاع الطاقة (النفط والغاز)، والتصنيع العسكري، وهو لا يقارن أبداً باقتصاد الولايات المتحدة. صحيحٌ أن القوة العسكرية، بما تشمل من ترسانةٍ نوويةٍ ضخمةٍ، تمنح قوةً كبيرةً للروس، لكن هذا وحده لا يكفي للحديث عن قوةٍ عظمى، ويدرك القادة الروس ذلك جيداً، وهم في استخدامهم القوة العسكرية، يبحثون عن تحسين موقعهم التفاوضي مع الأميركيين، في إطار تحقيق هدفٍ أساسيٍّ للسياسة الخارجية الروسية، وهو إنهاء الأحادية القطبية المهيمنة على العالم، لصالح فكرة الشراكة وتعدّدية الأقطاب.
ليس هناك أيديولوجيا يُراد نشرها عالمياً، على غرار اشتراكية الاتحاد السوفييتي، وإنما قومية روسية، تبحث عن المصالح الوطنية للدولة، وإعادة الاعتبار لموقعها في النظام العالمي. وهكذا، ليست السياسة الخارجية الروسية مُصَمَّمَة لنشر عقيدة فكرية، بل للحفاظ على مصالح الدولة وأمنها القومي. من هنا، يمكن ملاحظة التركيز الروسي على فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، المحيط بها، من بوابة الأمن القومي الروسي، حيث القلق من تمدّد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في هذا الفضاء، والانزعاج من منظومة الدرع الصاروخي الأميركية، والمناورات العسكرية بالقرب من حدود روسيا، وفي حوض البحر الأسود.
لا تستطيع روسيا اتباع سياسات توسعية، فإمكاناتها لا تسمح بغض النظر عن تحليل رغباتها، وهدفها الاستراتيجي تقليص الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. وفي هذا الاتجاه، يؤكّد الروس على مسألة السيادة الوطنية، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، في وجه التدخلات الأميركية، وحتى لو لم تتّسق السياسة الروسية بالكامل مع هذا المبدأ، فإن الإصرار عليه يكبح جماح الأميركيين بالأساس، وخصوصاً في محيط روسيا الجغرافي. كذلك، تبرز الفكرة الأوراسية، والتي يبدو تأثيرها على القيادة الروسية، في مواجهة الأطلسية الغربية، والعولمة ذات الطابع الأنغلو-سكسوني الأميركي، المفروض نموذجاً عالمياً وحيداً، إذ إن الأوراسية محاولةٌ لإنهاء سطوة النموذج الليبرالي الغربي، عن طريق تصوّر العالم قائماً على أعمدة أو أقطاب إقليمية/ قارِّية، وإيجاد قطبٍ أوراسي، تكون روسيا في القلب منه، ولا يقوم على الذوبان في عقيدةٍ محدّدة كما في الاتحاد السوفييتي، بل على التكامل بين أطرافه، لموازنة النموذج الغربي، ورفض هيمنته.
من زاوية التأكيد على سيادة الدولة القومية، ومواجهة العولمة بشكلها الحالي، يمكن تفسير التقارب بين بوتين واليمين المتطرّف الأوروبي، إذ يجتمع الطرفان على التضرّر من العولمة، على اختلاف الأسباب وأشكال الضرر لكل طرف، بما يعني أن الطرفين يتفقان على إعادة الاعتبار لمفهوم الحدود القومية، وسيادة الدولة، والحفاظ على مصالحها. أيضاً، يمكن فهم الإعجاب المتبادل بين بوتين وترامب في سياق البحث الروسي عن الشراكة مع أميركا، ففي ظل التراجع الأميركي، وعبء الهيمنة الذي تشعر به أميركا، ويود ترامب التخفّف منه، يظهر بوتين ليحمل بعض الأعباء، ما يجعل ترامب مرتاحاً له ولدوره، كما يرتاح بوتين لاعتراف ترامب به شريكاً في إدارة النظام الدولي، خصوصاً أن مشكلة ترامب الأساسية مع الصين التي تشكل الخطر الاقتصادي الأكبر على أميركا.
لن تنهي روسيا التفوق الأميركي، لكن صعود دورها، ودور الصين أيضاً، مفيدٌ لتقليص هيمنة أميركا، وإدخال بعض التوازن في النظام الدولي، وإعطاء دول العالم فرصة الاستفادة منه في توسيع هوامش المناورة خارج الفلك الأميركي.
المصدر : العربي الجديد