لا يتذكر سوريٌ فيلماً “مقاوماً”، فيه مناقب الشام وأهلها، مثل فيلم “عواء الذئب”. المقاومة تعبيٌر بعثيٌ، يشبه وضع اسم الملح على علبة السكر من أجل تضليل النحل. والشهامةُ في أهل الشام طبعٌ وفطرة، وليست خصلةً مكتسبة، أو لقاحاً طبياً من صيدليات الحلقات الحزبية.
كان حافظ الأسد قد استولى على السلطة، لكنه لم يتمكّن من الشام إلا بعد مذابح الثمانينيات المروّعة. الفيلم من إنتاج عام 1974، إخراج شكيب غنّام، وتأليف خالد حمدي، وتمثيل صلاح قصاص الذي يمثل دور بو ديب عمر، وهو مهرّب قتل شرطياً، فتوارى خوفاً، فوجد طياراً إسرائيلياً أُسقطتْ طائرته. ساومَ الطيارُ بو ديب عمر بالمال لتهريبه، فقال له: “الحيّة ما بتصيير خطيّة يا موسى”، وقرّر تسليم نفسه مع الطيار، مع أن الإعدام بانتظاره، وقال لزوجته جملته التي تناقلتها أجيال سورية: “ألف حبل مشنقة، ولا يقولوا بوعمر خاين يا خديجة”. الواقعة حقيقية، وبو ديب عمر من الزبداني التي قتل النظامُ أهلَها، وأبدلَ بشعبها شعباً جديداً، فيا ويحهم نصبوا مناراً من دمٍ… يوحي إلى جيل الغد البغضاء.
يعدُّ النقاد “عواء الذئب” العمل الفني الوحيد الذي حمل لقطاتٍ حقيقيةً من حرب تشرين في 1973، ومن نبض أهل الشام. ولهذا يدمّرُ الأسد مثل فيل في غرفة خزف كما يقول الكواكبي. والطيار عاد إلى قصف الشام، وسيردُّ حامي حدود إسرائيل في الزمان والمكان المناسبين، اللذين صار جمعهما على وسادة واحدة مستحيلاً رابعاً.
“العريس 1975″ و”سهرة من تشرين” سنة 1990 أشرف عليها شكيب غنام أيضاً، وهو من الشام وليس من أصفهان. وهكذا تكون ثلاثة أعمال فنية مقاومة له، من أصل خمسة، هي حصيلة حرب تشرين الفنية التي جعل لها النظام عيداً، يعطّلُ فيه الطلاب والموظفون، ويفرحون بالعطلة. التمثيليتان الأخريان هما “حكاية من تشرين” إخراج هاني الروماني، و”الولادة الجديدة 1985″ إخراج غسان باخوس.
للنظام مثقفون يقولون في صفحاتهم الحمراء: “الفرح مقاومة”.. وعليه، تكون الدبكةُ إسقاط جنابة في العرس والفراش المناسبين.
ليس هناك في حقبة الأسد التي طال عليها سالف الأمد سوى هذه الأعمال المقاومة، ثم علا وانتفخ سحر الفانتازيا التاريخية، وكان هذا الفن نزوحاً فنياً من التاريخ، صدّر فيه النظام ابن الوهاج بطلاً للأبطال في حومات المجد الكاذب.
روى لي أحد المنتجين، باكياً إتلاف مخزونات برنامج “خبّرني يا طير”، وهي بالمئات. الطيرُ خبّرَ قصصاً وحكايات حقيقية لسوريين نزحوا أو هاجروا، وعادوا، والنظام يخاف من الماضي، “فالطغاة يخافون من الذكريات”.
حلَّ أبطال ضيعة ضائعة محل بو عمر وخديجة، فلكل زمانٍ رجال. وشكا لي ناشر مأساته في طبع كتاب عن الجولان، أحسن طباعته وتجليده، لكن المؤسسات الثقافية والتربوية لم تشترِ منه نسخةً واحدة، فكسد. وكنت في زيارة لصديق، أتابع معه ذكرى حرب “تشرين التحريكية”، ولم يكن وقتها سوى البث التلفزيوني السوري الأرضي. وكان التلفزيون يقابل صديقي نفسه كبطل من أبطال الحرب: قلت.. والله هذا خبرٌ طيب، لقد تذكروك أخيراً. قال هذا تصوير قديم، وهم يعيدونه كل سنة مرة. نظرنا إلى الأسفل، كان بعض أولاد المسؤولين يعبرون الشارع، متجهين إلى بادية الحماد لصيد الطيور، وكان أبو منجل قد فرّ بريشه، وهاجر تاركاً البلاد لعلي الديك والمنجل والمنكوش.
ساد أبطال ضيعة ضائعة، وأشهد أن النظام أنتج مسلسلاتٍ ممتعة، وبينها لوحات ناقدة، بل إن بعضها متهورٌ ومقصود، ويلمح إلى السلطة الطائفية، لكنها لم تكن من نوع للعرض فقط، بل كانت للتطبيع، أما الشعب فممنوعٌ من لمس الديمقراطية، ويمنع الاقتراب خطر الموت.
حرّم النظام عرض “عواء الذئب”، إما لأن رهط الأسد يؤمنون بالسلام خياراً استراتيجياً، أو لأنهم يهابون اسم عمر الذي يهابه الشيطان. ولذلك، أعدموا بوديب عمر خنقاً في المستودعات.
المصدر : العربي الجديد