على مدار السنوات الماضية نأى الأردن بنفسه عن الدخول في تفاصيل الحرب السورية مقارنة باللاعبين الإقليميين الفاعلين في هذه الحرب. وظلت سياسة الأردن تعتمد الاعتدال كمنهج، فتتوافق مع الإجماع العربي- الدولي حيال النظام السوري من دون الذهاب إلى حد القطيعة السياسية التامة، وتقدم الدعم لفصائل المعارضة المسلحة في الجنوب من دون الذهاب بعيداً في اختراق الجغرافيا السورية، مع تعاون أمني مضمر أحياناً وواضح أحياناً أخرى مع النظام السوري، عبّر عنه صراحة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية الفريق الركن محمود فريحات حين تحدث نهاية العام الماضي بإيجابية عن التعاون العسكري- الأمني مع دمشق.
من هنا حافظ الأردن على سياسة منضبطة في الجنوب السوري، عبر الهيمنة على فصائل المعارضة الجنوبية ومنعها من المضي قدماً في فتح جبهات قد تؤدي إلى معارك تنتهي بنزوح عشرات الآلاف من جهة، مع دعمه لهذه الفصائل في السيطرة على مساحات جغرافية للحيلولة دون وصول المنظمات الإرهابية والجيش السوري و «حزب الله» والقوات الإيرانية إلى الحدود الأردنية.
لكن خلال الفترة الأخيرة شهدت العلاقات بين الأردن والنظام السوري توتراً ملحوظاً لم تعرفه السنوات الست الماضية بعد التصريحات التي أدلى بها الملك عبدلله الثاني في واشنطن حول مصير الأسد.
وبدا واضحاً أن تصريح الملك الأردني لصحيفة «واشنطن بوست» في 6 نيسان (أبريل) شكل نقلة جديدة في التعاطي السياسي الأردني مع الملف السوري، حيث أعلن الملك صراحة أن «المنطق يقتضي بأن شخصاً ارتبط بسفك دماء شعبه من الأرجح أن يخرج من المشهد».
الرد السوري جاء سريعاً من قبل الرئيس بشار الأسد والسفير السوري السابق في عمان بهجت سليمان، لكن الهجوم السياسي من النظام قوبل برد من قبل المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني الذي دعا الأسد إلى «الاهتمام بإعطاء الأمل لشعبه وجلب الاستقرار لبلاده بدلاً من كيل الاتهامات»، وهي لهجة تشكل قطيعة مع الخطاب السياسي الأردني الذي اتسم بالاعتدال طيلة سنوات الأزمة السورية.
بطبيعة الحال، لا يمكن أن ينشأ هذا التوتر السياسي نتيجة تصريحات الملك عبدالله الثاني في واشنطن فقط، فمثل هذا التصريح لا يصل بالأمور إلى ما وصلت إليه الآن، فالملك عبدلله طالب منذ بداية الأزمة بتنحي الأسد. لكن إذا ربطنا تصريح الملك الأردني بالتسريبات التي انتشرت أخيراً عن عمليات عسكرية أميركية- بريطانية مع قوى محلية يجري التحضير لها في الجنوب السوري وعلى الحدود السورية- العراقية- الأردنية في الشرق من جهة، ووثيقة حوران التي تطالب باللامركزية من الناحية الإدارية للمنطقة الجنوبية من جهة ثانية، أمكننا فهم الاستياء الحاصل في دمشق.
ومع أن عمان نفت في شكل مباشر إمكانية دخول الجيش الأردني إلى الأراضي السورية، إلا أن التصريحات الأردنية جاءت غامضة، ثم أخذت طابعاً أكثر وضوحاً مع تهديد المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني قبل أيام بعمل عسكري داخل سورية في حال اضطرار بلاده لحماية حدودها.
وكل المؤشرات تبين أن شيئاً عسكرياً يحضر في الجنوب السوري، ولم يعد خافياً على أحد التواجد الأميركي- البريطاني في الجنوب والجنوب الشرقي من سورية، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يحدث أمر ما في هذه المنطقة بعيداً من عمان.
المخطط الأميركي- البريطاني يسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين:
القضاء أولاً على ما تبقى من «جيش خالد بن الوليد» في الجنوب، بما يشمل منطقة غرب مدينة درعا (منطقة حوض اليرموك)، واستكمال تطويق تنظيم «داعش» في المثلث الحدودي الأردني- السوري- العراقي ثانياً. وهذا الأمر يتطلب فصل المثلث الحدودي في الجنوب الشرقي عن حوض اليرموك في الجنوب الغربي، ويتطلب أيضاً السيطرة على كامل الحدود السورية- الأردنية شرقاً ثم الحدود السورية- العراقية القريبة من الأردن عند نقطة التنف.
ولذلك أطلق النظام السوري قبل أيام عملية عسكرية كبيرة في البادية السورية بهدف الوصول إلى الحدود العراقية باتجاه معبر التنف (القريب من الحدود العراقية- الأردنية) وقطع الطريق على الولايات المتحدة.
الهدف الأميركي- البريطاني في هذه المنطقة هو الحيلولة دون اقتراب النظام السوري وروسيا من الحدود السورية- الأردنية، حيث تتحمل واشنطن تواجد قوات النظام والقوات الروسية في تدمر فقط والمناطق الغربية منها.
مهمة الأردن في هذا المخطط ذات أهمية عالية بسبب علاقته بفصائل المعارضة المسلحة في الجنوب والجنوب الشرقي من أجل إنشاء جدار عشائري في مواجهة «داعش».
يضاف إلى ذلك، إمكانية دخول قوات أردنية للفصل بين فصائل المعارضة والنظام في ضوء الترتيبات الدولية الجارية لتحديد هوية القوى التي ستناط بها مهمة المراقبة والفصل في المناطق الأربع الآمنة، ومنها الجنوب السوري.
وأمام هذه المعطيات يبدو أن صيغة المهادنة التي حكمت علاقات الأردن مع النظام السوري في طريقها إلى الانتهاء، وأن مرحلة جديدة قيد البداية.
المصدر : الحياة