ما زال بعضهم يصّر على العزف خارج السرب الدولي، مستغرباً سبب قبول زعماء العالم الغربي بقاء رأس النظام السوري في السلطة، مدّعمين استغرابهم بأن بشار الأسد أكبر قاتل في العصر الحديث، وهذا سبب كاف لأن ينبذه زعماء العالم الحر، لا أن يتحسّر زعيم ليبرالي عولمي بوزن الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، على إغلاق سفارة بلاده في دمشق سبع سنوات، وانقطاع التواصل مع نظام الأسد وأجهزته.
يعرف الغرب تماما من قتل وبأي سلاح فعل، لديهم تقنيات تكنولوجية، تتيح لهم رصد كل مكالمة وكل أمر عسكري، وينتشر عملاؤهم وعيونهم في كل مكان، يعرفون أكثر مما نعرف، نحن أهل البلاد، ما يجري في حوارينا وأزقتنا، ولكن ليس من مهامهم إعلان موقف من القاتل.
عندهم أن بشار الأسد ليس خطرا على الخارج، قالها ماكرون، وقبله ردّد وزير خارجية روسيا هذه المعزوفة على أسماع نظرائه الغربيين، قبله كان عبد الفتاح السيسي يقتل أول تجربة ديمقراطية في تاريخ الدولة المصرية الحديثة، ويجتث بيئتها الحاضنة، وكأنه يعيش في عالمٍ لا رقيب فيه، ومع ذلك جرى دعمه وتكريمه.
عندهم أيضاً أن كل ما يفعله الأسد خيرٌ صاف، الرجل أجرى هندسة اجتماعية بالسكين لموازنة الأكثرية بالأقليات، وضمن بقاء الأقلية وسيطرتها مدى زمنيا طويلا، أنقذ البلد من موجة الإسلاموية إلى مائة سنة مقبلة، رحّل إلى أوروبا عمالة تحتاجها بإلحاح في الوقت الراهن، ثمّة مهنٌ كثيرةٌ ضرورية لمجتمعات أوروبا عافها الأوروبيون، إما لقلة مردوديتها أو لصعوبة العمل بها، دعك من صراخات بعض الشعبويين هؤلاء، ليسوا على إطلاع بالمعطيات، ولا يعرفون المخططات.
أثبت الأسد قدرة هائلة على إدارة مساكنة دولية على أرض سورية، فقد أرضى جميع الأطراف، دولاً وجماعات وأحزابا، واستطاع منحهم ما يكفيهم من حصص وقواعد وممرات ومطارات. وشعر الكل معه بأنه أعظم من في العالم وأقوى من في الإقليم، وزَع عليهم ثروات سورية مثلما يشتهون ويحبّون، وفاض كرمه الذي تجاوز كرم حاتم الطائي الذي وقف عند ذبح حصانه للضيف، بأن منح صديقه فلاديمير بوتين سماء مفتوحة، وأرضاً عامرة باللحم الحي، ليجرّب عليها الأخير أسلحته، ويصنع دعايةً لمنتجاته القاتلة أمام الزبون وعلى الهواء مباشرة.
أثبت بشار الأسد أن الجغرافيا السورية رحبة، وتتسع لأشياء كثيرة، ولا تضيق إلا على السوري وحده، لا لشيءٍ سوى أنه لا يعرف استخدام المساحات بغير زراعة القمح ورعاية مواشيه، وملاعب لأولاده، فيما اكتشف الأسد أنها في عصر الصراعات الإستراتيجية وزمن العولمة وصراعات خطوط النفط والغاز ومشاريع طرق الحرير والسلام، تساوي أكثر من ذلك بكثير، وأثبت أن كل شيءٍ مسموح في جغرافية سورية، ووحدها حرية الشعب السوري الممنوعة، ليس من قلة حداثةٍ يفتقر لها الرجل، بل لأن حرية الجهلة جالبة للإرهاب، ومهدّدة وحدة التراب.
هل من قائل إن الأسد قاتل؟ نعم لكنه قتلٌ وظيفيٌّ هدفه تحديث الشعب، فالتحديث، في آخر نسخه، بات يعتمد القتل أداةً لإنجاز هذه المهمة، لم تعد مهمة الحاكم طرح أفكار ومشاريع تحديثية وصياغتها، ما دامت الأفكار ملقاةً على قارعة العالم بعد قرون من دخول الحداثة بوابة العالم، وتغلغلها في جنباته، خصوصا وأن الغرب علق في أزمة التحديث، إذ ليس شرطا أن تأتي عمليات التغيير السياسي بالتحديث الذي يتطابق مع الاغتراب أو التغرب، كما أن الديمقراطية يمكنها إيصال أشخاص إلى السلطة على تصادم مع الغرب، في حين أن قائمة الديكتاتوريين العرب، وإن كانت تمنع الديمقراطية، إلا أنها تطبق روشتية الغرب في التحديث والعولمة ونمط الحياة الغربي وسواها، ولا تستغربوا اقتران الحداثة بالقتل، الغرب نفسه كان قد دشّن حداثة اليابان بمذابح ناغازاكي وهيروشيما.
الأكثر من ذلك أن الأسد يمزج بين الحداثة والديمقراطية، فهو لم يجبر أحدا على الثورة ضده. استلم الرجل السلطة بالوراثة، وسمح للشعب بتجديد البيعة له كل سبع سنين، كما أنه لم يُجبر أحدا على القتال معه، من فعل ذلك فعله لأسبابه الخاصة، كان ديمقراطياً إلى أبعد الحدود، وغداً عندما تبرد الجراح، وينظر كلٌّ إلى الحدث من زاويته الخاصة، سيكتشف السوريون حجم إنجازات الأسد. كان الوصول إلى أوروبا وأميركا حلما لدى السوريين، لا يناله إلا أصحاب الثروات والمشاهير، وها هم السوريون يتجولون في أوروبا مثلما يتجولون في حواري مدنهم، حتى سكان المخيمات أغلبهم من أبناء الأرياف الذين ملّوا من رتابة الريف، وقيوده الاجتماعية وسنوات الجفاف القاهرة، وها هم اليوم يعيشون في المخيمات حياة المدن النشطة، وينعمون بالمساعدات الدولية، من دون انتظار السماء أمطرت أم لم تمطر، وحتى الموالون سيكتشفون أنهم تخلصوا من الزعران في قراهم ومدنهم، وحصلوا عوضاً عنهم على ساعاتٍ تزين حيطان بيوتهم.
كيف يفرّط العالم برئيسٍ كهذا، أدار كل هذه التوازنات، وحقق كل تلك النتائج المبهرة في زمنٍ ترتبك دول عظمى في إدارة صراعاتها على مساحةٍ صغيرة في بحر اليابان والمتجمد الشمالي، وتتهافت شعوبها على فرصة عملٍ تحسّن بها أوضاعها. فقط ممنوع على بشار استخدام الكيميائي، ونوع محدّد منه، وبالأصل لم يعد الرجل بحاجة لهذا النوع من السلاح. وباعتراف الأمم المتحدة، سبق أن استخدمه مائة وخمسين مرّة قبل ذلك، ما يعني أنه لو كان لعبة بلاي ستيشن تلك التي يعشقها الأسد أكثر شيء، لكان قد عافها وانتهى منها هذا الحداثي الديمقراطي.. والوسيم.
المصدر : العربي الجديد