وهكذا وقع المحظور وازداد خطر الفتنة بين المواطنين السوريين واللبنانيين، التي كانت نائمة ولعن الله من أيقظها أو صب الزيت على النار ليشعلها ويفتح الباب على مصراعيه لحرب عنصرية وطائفية ومذهبية.
قبل كل شيء، لا بد من تأكيد مسلمات أساسية وضرورية لنزع صواعق التفجير وإعادة الطمأنينة إلى القلوب وردع كل من يصطاد في الماء العكر لغاية في نفسه وللتنفيس عن أحقاد دفينة وغايات خبيثة. ومن بين هذه المسلمات أورد الخطوات المطلوبة التالية:
1- الفصل بين المشكلة الأساسية المتعلقة بأوضاع مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين السوريين ودور الجيش اللبناني في الحفاظ على الأمن ومحاربة الإرهاب واتخاذ ما يلزم من إجراءات احترازية لإحباط أي عملية تستهدف أمنه وتهدده. فالجيش خط أحمر، وهو المؤسسة الوحيدة مع قوى الأمن التي تمنع انهيار البلاد وتنقذها مما يحاك لها. إلا أن الحذر واجب من إدخال عناصر وفئات أخرى في حربه، حتى لا يستغل بعضهم ما يجري لإثارة النعرات الطائفية والفتن المذهبية.
2- يجب التفريق بين غالبية النازحين السوريين وبين فئات قليلة لا يتعدى عدد أفرادها المئات تضمر الشر وتخطط لعمليات إرهابية أو لمهاجمة أراض لبنانية، فالغالبية منكوبة ومعدمة، ولا تريد إلا لقمة العيش والأمان والاستعداد للعودة إلى الوطن. وبكل أسف، فإن ما نسمعه من حملات تحريضية وأعمال منكرة يندى لها الجبين من جانب بعض الفئات لا تبشر بالخير وتنذر بالشر المستطير. ولهذا، لا بد من التركيز على التهدئة وانتهاج سبل الحكمة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بطمأنة النازحين وحفظ كرامتهم والتعامل معهم باحترام كأشقاء وضيوف، إلى أن تجري تسوية أوضاعهم، فمن غير المقبول تحميلهم مسؤولية أعمال منكرة من فئة قليلة منحرفة، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: «ولا تزر وازرةٌ وزْرَ أخرى».
3- وقف التصعيد وتغليب الحكمة في معالجة هذا الملف الشائك، ومنع التظاهرات بشتى أشكالها وغاياتها ووقف الحملات الإعلامية التي تكاد أن تسبب بفتنة بين السوريين واللبنانيين فحسب، بل بين اللبنانيين أنفسهم. فالاحتقان وصل إلى نقطة الخطر، وعلى الجميع أن يعي خطورة المرحلة ويعمل على إطفاء الحريق.
4- بدء العمل الجدي والصادق بعيداً من الحساسيات، للبحث في وسائل إعادة اللاجئـــين إلى ديارهم، خصوصاً أن الحـــديث يتزايد عن إقامة مناطق آمنة، وهناك دول بدأت اســـتعداداتها لإعادة لاجئين إلى تلك المناطق، بينها ألمانيا التي أعلنت أنها ستعيد 200 ألف لاجئ. وبصرف النظر عن الجدل البيزنطي حول الجهة المطلوب التنسيق معها في هذا الأمر، فإن الواقع يفرض الكثير من التنازلات والاعتراف بأنه من غير المنطقي تجاهل دور الحكومة السورية في هذه المسألة، إضافة إلى دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
هذه الخطوات الأولية لا بد منها للانطلاق نحو المعالجة الحكيمة، بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال وتجاهل الاحتقان القائم والمشاعر الغاضبة التي تصل إلى مصاف العنصرية بين الشعبين الشقيقين. ومن لا يصدق، فلينزل إلى الشارع في البلدين ويستمع إلى آراء الناس وشكاويهم وغضبهم، أو ليتصفح منافذ التواصل الاجتماعي ويقرأ العبارات المستخدمة والاتهامات المتبادلة، وكأننا نعيش حالة هستيريا ونقمة.
فالسوري يشتكي من الاضطهاد والعنصرية والمعاملة السيئة والشتائم، ويعاني من التعامل معه كنكرة أو فرض منع تجول على تنقلاته، وصولاً إلى فرض بعض البلديات رسوماً ظالمة عليه وإجباره على العمل بالسخره في عز الصيف من دون أن يدفع له أجر عرق جـــبينه. واللبناني يشتكي من منافسة العامل والتاجر الـــسوري وإغراق البلاد بالــسلع والمنتجات من البضائع السورية المهربة، إضافة إلى الشكوى من الأمن واتهام السوريين ببعض الجرائم والسرقات، عدا عن فوبيا الخوف من الإرهاب وخلايا التطرف النائمة.
حتى الإعلام والفن لعبا دوراً في الترويج لهذه الآفة العنصرية، ففي مسلسل «الهيبة» تكرِّر الفنانة المبدعة منى واصف شكواها من تعامل اللبنانين معها ومع ابنها جبل، بوصفه «ابن الشامية». وهناك حظر من بعض المحطات التلفزيونية اللبنانية على الدراما السورية ورفض مشاركة ممثلين سوريين في مسلسلات لبنانية، حتى أن الفنانة العريقة أمل عرفة أصدرت بياناً أعلنت فيه رفضها المشاركة في برنامج لمحطة لبنانية، احتجاجاً على عنصريتها تجاه الممثلين السوريين ورفض شراء أي مسلسل سوري. ولجأت ممثلة لبنانية مغمورة إلى توجيه كلمات نابية ضد اللاجئين، ما أثار استنكاراً واسعاً بين اللبنانيين والسوريين.
هذا غيض من فيض مجريات الأمور، والآتي أعظم إذا لم يُسارَع إلى إطفاء نار الفتنة لمنع تكرار تجربة التعامل مع اللاجئين الفلسطينين التي أدت إلى نشوب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. إلا أن هذه التجربة المريرة أقل خطراً من الوضع الراهن، ففي الماضي كانت هناك مراجع فلسطينية ومنظمة وقيادة يمكن اللجوء إليها لمعالجة حدث ما. أما اليوم، فإننا نتوقف أمام فوضى وضياع وعدم وجود مراجع للمعالجة، في مقابل ممارسات مغرضة من أطراف أخرى تسعى إلى صبّ الزيت على النار وتنفيذ مخططات لا تصب في مصلحة لبنان.
وبكل أسف، فإن الأمور تسير نحو الأسوأ، فقد حذرنا في الماضي من الأخطار مع التذكير بأن أي فعل يُقابَل برد فعل، وسط تعقيدات متعددة وتقاطع طرق ومصالح وغايات متضاربة. ففي كتابي «ربيع الدم والأمل» أشرت إلى الوضع تحت عنوان «لا للعنصرية ضد اللاجئين السوريين»، كأنه لا يكفي السوريين آلامهم وجراحهم ومآسيهم ونكبتهم وخسارتهم الأبناء والأموال والأملاك وفصول مشاهد الرعب التي عاشوها واكتووا بنارها، وهو العيش في مخيمات البؤس وذل الحاجة للسكن والملبس والغذاء والدواء حتى تلاحقهم صرخات العنصرية والتعليقات المهينة والأعمال المشينة والتصرفات المخزية.
فما أسمعه لا يمكن أن يصدَّق أو يُفهم من جانب أشقاء يدّعون أنهم عرب وأنهم إخوة تجاه شعب أبي عزيز النفس كريم لم بيخل يوماً تجاه أشقائه عبر التاريخ.
وكما قلت، فإن مسؤولية اللاجئين كبيرة في هذا المجال بأن يحذروا من أي تصرف مسيء وأن يحترموا القوانين والأعراف، ويمتنعوا عن أي عمل يمكن أن يُستَغَل ضدهم للترويج للإشاعات وروايات تسيء إليهم وتؤجج نار الكراهية.
وهنا تكمن أهمية المعادلة بين التزام اللاجئين بالقوانين ونبذ الإرهاب والعنف وإبعاد التنظيمات الإرهابية عن مخيماتهم، في مقابل وقف الحملات العنصرية والمعاملة السيئة.
وفي مقال آخر في «الحياة» تحت عنوان: عار العنصرية ضد السوريين، كرّرت التحذير من أسلوب التعامل مع اللاجئين والتحريض ضدهم وتجاهل حقائق تاريخية عن مستوى السوريين الحضاري وإنجازاتهم واستثماراتهم في لبنان في مناسبات كثيرة، كما أنهم أقاموا صروحاً صناعية وتجارية ومصرفية وساهموا في إعمار أجزاء مهمة من بيروت والمدن الأخرى، فيما تولى للعمال المهرة مهمة البناء.
وفي ظل هذه الهجمة الشرسة، لا بد من التذكير أيضاً بأن صلة القرابة والنسب راسخة في قلوب الشعبين، ولن تنفع محاولات محوها وإنكارها، فقد ساهم مئات العلماء والأطباء والأساتذة السوريين في خدمة لبنان وتدعيم الوحدة الوطنية، من دون أن ننسى أن مار مارون أصله سوري، ومثله آلاف الأشقاء الموارنة وسائر المسيحيين، وأن معظم العائلات نصفها سوري ونصفها الآخر لبناني، إضافة إلى أن معظم قادة لبنان عبر التاريخ متزوجون من سوريات ومعهم آلاف من الزيجات المختلطة، رداً على من تشدّق بمزاعم التفوق.
أما بالنسبة إلى التضليل الإعلامي في شأن الأعباء الناجمة عن وجود مئات الآلاف من اللاجئين، فإن الأرقام تدحض المزاعم وتؤكد أن بلايين الدولارات دفعت للبنان من جانب الأمم المتحدة أنفقت لتحريك العملة الاقتصادية، فذهب بعضها هدراً أو سرقة، ويعرف القاصي والداني كم ينفق اللاجئون يومياً وكم توفر اليد العاملة السورية على المزارعين والتجار والصناعيين، كما أن الآلاف من الأثرياء ورجال الأعمال وضعوا أكثر من سبعة بلايين دولار كودائع في المصارف اللبنانية ودعمت وضع الليرة، إضافة إلى المليارات التي أنفقت على شراء عقارات وشركات وبناء الكثير من العمارات الحديثة.
وهناك الكثير من الأرقام والاحصاءات التي تشرح بالتفاصيل هذه الحقائق، إلا أنها بقيت بعيدة من الإعلام ومن التداول اليومي لغايات مشبوهة. لذلك لا بد من مصارحة تامة لمعالجة الموقف قبل فوات الأوان، فأزمة اللاجئين اليوم تقف على برميل متفجرات صاعقها جاهز أو فوق بركان ثائر لا يعرف أحد متى سيلقي بحممه.
لا بد من الحكمة والإنسانية، ولا بد من بذل الجهود لتسهيل عودة اللاجئين لأن مواصلة نهج إثارة الأحقاد والكراهية ستنقلب على الجميع ويغرق المركب بمن عليه من لبنانيين وسوريين… وليكن المخرج مشرفاً وبأقل مقدار من الخسائر، والله عز وجل يأمرنا باتباع النهج الإنساني: «إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان»، صدق الله العظيم.
المصدر : الحياة